للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال]

أخيراً وقبل أن نطوي بساط هذا البحث نذكر أمثلة تطبيقية لتقويم الرجال، فنلاحظ في كلام العلماء في تقويم الرجال التورع والتحري والعدل والإنصاف، فنجد بعض النقاد من علماء الحديث قد يضعف أباه أو ولده أو قريبه إذا كان يستحق ذلك، ولا يداري ولا يداهن؛ فإن المنهج أغلى من أولئك الرجال، يقول شعبة: لو حابيت أحداً لحابيت هشام بن حسان؛ كان ختني -قريباً له- ولم يكن يحفظ.

وسئل علي المديني عن أبيه فقال: سلوا غيري.

يعني: لا يريد أن يتكلم في أبيه، فأعادوا فأطرق ثم رفع رأسه فقال: هو الدين، يعني: هي مسئولية الدين، فكأن هناك تحفظ من أن يوثق أباه في الرواية أو من ناحية حفظه مثلاً، حتى مع أبيه، فهذا تصديق لقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} [النساء:١٣٥]، فهو يتحرج من أن يقع في أبيه، ويستخدم كل وسيلة ليهرب من هذا الأمر، وفي نفس الوقت يقول: هو الدين.

وأبو داود السجستاني كان يكذب ابنه ويقول: هو كذاب لا تقبلوا روايته.

وقال عبيد الله بن عمرو: قال لي زيد بن أبي أنيسة: لا تكتب عن أخي؛ فإنه كذاب.

وقال الذهبي: لو حابيت أحداً لحابيت أبا علي، لمكان علو روايته في القراءات عنه؛ لأنه صاحب الروايات العالية في القراءات التي أخذها عنه الإمام الذهبي رحمه الله تعالى.

ونذكر مثالاً في معرض حديث شيخ الإسلام عن أبي ذر الهروي، وهو أحد الرواة المشهورين لصحيح البخاري، يقول: أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة، وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف.

ثم ذكر بعض أصحابه ممن فيهم نظر، وفيهم بعض البدع، ووضح أيضاً ما هم عليه من الخطأ في هذه الأبواب.

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية في الإمام أبي محمد بن حزم رحمه الله: كذلك أبو محمد بن حزم فيما صنفه من الملل والنحل إنما يستحمد بموافقة السنة والحديث، مثل ما ذكره في مسائل القدر والإرجاء ونحو ذلك، بخلاف ما انفرد به من قوله في التفضيل بين الصحابة، وكذلك ما ذكره في باب الصفات، فإنه يستحمد فيه موافقة أهل السنة والحديث، لكونه يثبت الأحاديث الصحيحة، ويعظم السلف وأئمة الحديث، ويقول: إنه موافق للإمام أحمد في مسألة القرآن الكريم وغيرها، ولا ريب أنه موافق له في بعض ذلك، لكن الأشعري ونحوه أعظم موافقة للإمام أحمد بن حنبل ومن قبله من الأئمة في القرآن الكريم والصفات.

وكذا يفصل الإمام ابن تيمية القول في حق الإمام الكبير ابن حزم رحمه الله، ثم يقول في النهاية بعد أن ذكر بعض المؤاخذات: وإن كان له من الإيمان والدين والعلوم الواسعة الكثيرة ما لا يدافعه إلا مكابر، ويوجد في كتبه من كثرة الاطلاع على الأقوال والمعرفة بالأحوال، والتعظيم لدعائم الإسلام، ولجانب الرسالة ما لا يجتمع مثله لغيره، فالمسألة التي يكون فيها حديث يكون جانبه فيها ظاهر الترجيح، وله من التمييز بين الصحيح والضعيف، والمعرفة بأقوال السلف ما لا يكاد يقع مثله لغيره من الفقهاء.

كذلك انظر إلى كلام الذهبي في ترجمة القاضي أبي بكر بن العربي مشيراً إلى وقوع القاضي أبي بكر بن العربي في ابن حزم رحمه الله، فقال بعدما مدح القاضي أبا بكر بن العربي رحمه الله تعالى: ولم أنقم على القاضي رحمه الله إلا إقذاعه في ذم ابن حزم واستجهاله له، وابن حزم أوسع دائرة من أبي بكر في العلوم، وأحفظ بكثير، وأصاب في أشياء وأجاد، وزلق في مضايق كغيره من الأئمة، والإنصاف عزيز.

أيضاً يقول الإمام الذهبي في ترجمة ابن حزم: وكان قد مهر أولاً في الأدب والأخبار والشعر، وفي المنطق وأجزاء الفلسفة، فأثرت فيه تأثيراً ليته سلم من ذلك، ولقد وقفت له على تأليف يحض فيه على الاعتناء بالمنطق، ويقدمه على العلوم؛ فتألمت له، فإنه رأس في علوم الإسلام، متبحر في النقل، عديم النظير، على يبس فيه، وفرط ظاهرية في الفروع والأصول، وصنف في ذلك كتباً كثيرة -أي: في المذهب الظاهري- وناظر عليه، وبسط لسانه وقلمه، ولم يتأدب مع الأئمة في الخطاب، بل فجج العبارة وسب وجدع، فكان جزاؤه من جنس فعله؛ بحيث إنه أعرض عن تصانيفه جماعة من الأئمة وهجروها، ونفروا منها، وأحرقت في وقت، واعتنى بها آخرون من العلماء، وفتشوها انتقاداً واستفادة وأخذاً ومؤاخذة، ورأوا فيها الدر الثمين ممزوجاً في الرصف بالخرز المهين -يعني: كأنهم عملوا منها عقداً فيه درر ثمينة وفيه خرز مهين- فتارة يطربون، ومرة يعجبون، ومن تفرده يهزءون! وفي الجملة فالكمال عزيز، وكل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهض بعلوم جمة، ويجيد النقل، ويحسن النظم والنثر، وفيه دين وخير، ومقاصده جميلة، ومصنفاته مفيدة، وقد زهد في الرئاسة، ولزم منزله مكباً على العلم، فلا نغلو فيه، ولا نجفو عنه، وقد أثنى عليه قبلنا الكبار.

اهـ أيضاً الإمام أبو إسماعيل الهروي له كتاب معروف اسمه: ذم الكلام، وكتاب في التصوف اسمه: منازل السائرين شرحه الإمام ابن القيم في مدارج السالكين، والإمام الهروي ممن يلقب بشيخ الإسلام، لكن الحافظ ابن القيم استدرك عليه في كتابه مسائل عديدة، وتعقبه في ألفاظ مختلفة، يقول الإمام ابن القيم في بعض المواضع التي ما استطاع أن يتجاوز عنها وهو يشرح كتاب الإمام الهروي: في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير يجبره حسن حال صاحبه وصدقه وتعظيمه لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلا له.

ولذلك تجد الفرق بين عبارات الإمام ابن القيم في بعض الطبعات من كتاب مدارج السالكين، وبين عبارات بعض علماء الدعوة السلفية، فقد كانت عباراتهم شديدة جداً في مثل الإمام الهروي، ففي الغالب الشباب يميلون إلى هذه الشدة ويتجاوبون معها، ولا ينضبطون بهذا الذي نتحدث فيه الآن، وهو العدل والإنصاف، فتجد من السهل جداً أن تخرج منهم كلمة الكفر والشرك، ويوصف رجل بأنه صوفي؛ فيظن أن كلمة صوفي تطلق دائماً على أهل الإلحاد والاتحاد، وتعني كذا وكذا، وهذه لفظة مشتبهة، وينبغي أن تفتش عن المعنى المقصود لمن اتصف بها؛ لأنها كلمة تحتمل عدة معانٍ، وبسط هذا له موضع آخر.

يقول ابن القيم في بعض الألفاظ قبل أن ينتقده شيخ الإسلام حبيب، ولكن الحق أحب إلينا منه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: عمله خير من علمه، أي: عمل الهروي خير من علمه.

وصدق رحمه الله، فسيرته بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجهاد أهل البدع لا يشق له فيها غبار، وله المقامات المشهورة في نصرة الله رسوله، وأبى الله أن يكسو ثوب العصمة لغير الصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم، وقد أخطأ في هذا الباب لفظاً ومعنى.

ثم في موضع آخر يستنكر ابن القيم على الهروي بعض هذه المواضع ويقول: ولا توجب هذه الزلة من شيخ الإسلام إهدار محاسنه، وإساءة الظن به، فمحله من العلم والإمامة والمعرفة والتقدم في طريق السلوك المحل الذي لا يجهل، وكل أحد فمأخوذ من قوله ومتروك إلا المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، والكامل من عدّ خطؤه، ولاسيما في مثل هذا المجال الضنك، والمعترك الصعب الذي زلت فيه أقدام، وضلت فيه أفهام، وافترقت بالسالكين فيه الطرقات، وأشرفوا إلا أقلهم على أودية الهلكة.

ومن هذه النماذج أيضاً، وهو نموذج واضح جداً ونحتاجه كثيراً، نقد العلماء لكتاب إحياء علوم الدين لـ أبي حامد الغزالي، وكتاب قوت القلوب لـ أبي طالب المكي، يقول شيخ الإسلام بعد كلام طويل في حق الإحياء: والإحياء فيه فوائد كثيرة، ولكن فيه مواد مذمومة، فإن فيه مواد فاسدة من كلام الفلاسفة تتعلق بالتوحيد والنبوة والمعاد، فإذا ذكر معارف الصوفية كان بمنزلة من أخذ عدواً للمسلمين ألبسه ثياب المسلمين، وقد أنكر أئمة الدين على أبي حامد هذا في كتبه، وقالوا: أبو حامد أمرضه الشفاء! وهو كتاب لـ ابن سيناء اسمه الشفاء في الفلسفة فكانوا يقولون: إن أبا حامد لما قرأ في كتاب الشفاء أمرضه.

يقول الإمام الذهبي رحمه الله تعالى في الإحياء أيضاً: وأما الإحياء ففيه من الأحاديث الباطلة جملة، وفيه خير كثير لولا ما فيه من آداب ورسوم وزهد من طرائق الحكماء، ومنحرفي الصوفية نسأل الله علماً نافعاً.

ويقول أيضاً: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ، ويقول الذهبي أيضاً: رحم الله أبا حامد فأين مثله في علومه وفضائله؟ ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ، ولا تقليد في الأصول.

فهذان إمامان من أئمة أهل السنة؛ شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الذهبي رحمهما الله يثبتان الاضطراب والانحراف في منهج أبي حامد الغزالي رحمه الله، ولم يمنعهما ذلك من تقرير الجوانب الإيجابية في منهجه الفكري إحقاقاً للحق، وإتماماً للعدل المأمور به شرعاً، فإذا فقدنا هذه الضوابط التي ذكرناها، تشيع الاتهامات وتكثر الافتراءات، ويصل الحال عند بعض الناس إلى أن يرموا بالكتاب جملة وتفصيلاً، وقد يتطاولون بألفاظ السب والتجديع لمؤلفه.

منهج أهل