[موقف نسيبة بنت كعب في غزوة أحد وما بعدها]
وهذه نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله تبارك وتعالى عنها، -وكنيتها أم عمارة - الفاضلة المجاهدة الأنصارية الخزرجية النجارية المازنية المدنية، كان أخوها عبد الله بن كعب المازني من البدريين، وكان أخوها عبد الرحمن من البكائين.
يقول: الحافظ الذهبي في ترجمتها في سير أعلام النبلاء: شهدت أم عمارة ليلة العقبة وأحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة.
وجاهدت وفعلت الأفاعيل، قطعت يدها في الجهاد رضي الله تبارك وتعالى عنها، شهدت أحداً مع زوجها غزية بن عمرو ومع ولديها، خرجت يوم أحد تسقي الظمأى وتسقي الجرحى، وكانت غرة الحرب وطلعتها للمسلمين، ثم أشاحت بوجهها عنهم فتناوشتهم سيوف المشركين تنهل من نحورهم وتطعن في ظهورهم، فانكشفوا وولوا مدبرين إلا عشرة أو نحوهم وقفوا يدرءون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحولون دون الوصول إليه، هنالك جاء دور نسيبة، فانتضت سيفها واحتملت قوسها، وذهبت تصول وتجول بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، تنزع عن القوس، وتضرب بالسيف، وحولها من الغر المذاويد علي وأبو بكر وعمر وسعد وطلحة والزبير وعباس وولداها وزوجها، فكانت من أظهر القوم أثراً وأعظمهم موقفاً، كانت لا ترى الخطر يدنو من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تكون سداده وملء لهوته، حتى قال: عليه الصلاة والسلام (ما التفت يمينا ًولا شمالاً إلا وأنا أراها تقاتل دوني).
وكان ضمرة بن سعيد المازني يحدث عن جدته -وكانت قد شهدت أحداً- أنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لمقام نسيبة بنت كعب خير من مقام فلان وفلان).
وكانت تراها يومئذ تقاتل أشد القتال، وإنها لحاجزة ثوبها على وسطها حتى جرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: (إني لأنظر إلى ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة -تعني أن هذا الكافر ضربها على عنقها ضربة ظلت جرحاً تتداوى منه سنة كاملة- ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد.
فشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم) رضي الله عنها ورحمها.
تقول أم عمارة: رأيتني وانكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما بقي إلا في نفير ما يتمون عشرة، أنا وابناي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً ومعه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل.
فألقاه فأخذته، فجعلت أترس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما فعل بنا الأفاعيل أصحاب الخيل، لو كانوا رجالة مثلنا أصبناهم إن شاء الله.
تقول: غلبنا من كانوا يركبون الخيول من الكفار، لكن لو كانوا يقاتلوننا على الأرض كما نفعل نحن لأصبناهم إن شاء الله.
فتعتذر عن شدة القتال بأن الكفار كانوا أصحاب خيل.
ثم تقول: فيقبل رجل على فرس فيضربني، وترست له فلم يصنع شيئاً وولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا ابن أم عمارة! أمك أمك، لما وقع ذلك الرجل من الفرس، قالت: فعاونني عليه أي أن ابنها عاونها على ذلك الكافر، تقول: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب)، وشعوب اسم من أسماء الموت كالمنية، أي: أوردته موارد الموت والهلكة.
يقول عبد الله بن زيد: (جرحت يومئذ جرحاً، وجعل الدم لا يرقأ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اعصب جرحك.
فتقبل أمي إلي ومعها عصائب في حقوها، فربطت جرحي والنبي صلى الله عليه وسلم واقف، وبعدما ربطت جرحي قالت: انهض بني فضارب القوم.
وجعل يقول النبي عليه الصلاة والسلام: من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟! فأقبل الذي جرح ابنها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا ضارب ابنك.
قالت: فأعترض له فأضرب ساقه فبرك، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم حتى رأيت نواجذه، وقال: استقدت يا أم عمارة -يعني: أخذت القود والقصاص من ضارب ولدك- تقول: ثم أقبلنا نعله بالسلاح حتى أتينا على نفسه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي أظفرك) ويقول عبد الله بن زيد بن عاصم أيضاً: (شهدت أحداً، فلما تفرقوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دنوت منه أنا وأمي نذب عنه، فقال: ابن أم عمارة! قلت: نعم.
قال: ارم فرميت بين يديه رجلاً بحجر وهو على فرس، فأصبت عين الفرس، فاضطرب الفرس فوقع هو وصاحبه، فجعلت أعلوه بالحجارة والنبي صلى الله عليه وسلم يبتسم، ونظر إلى جرح أمي على عاتقها فقال: أمك أمك، اعصب جرحها، اللهم! اجعلهم رفقائي في الجنة.
فبعدما سمع هذا الدعاء قال: قلت: ما أبالي ما أصابني من الدنيا).
وكان لأم عمارة ولدان: أحدهما: عبد الله بن زيد بن عاصم المازني الذي حكى وضوء النبي صلى الله عليه وسلم، وهو الذي قتل يوم الحرة، والثاني: حبيب بن زيد بن عاصم الذي أرسله النبي عليه الصلاة والسلام رسولاً إلى مسيلمة الكذاب، فكان مسيلمة يقول له: أتشهد أني رسول الله؟ فيقول له: لا أسمع.
فيقول: وما تقول في محمد؟ يقول: أشهد أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقطع جسده عضواً عضواً ليرتد عن دينه، لكنه لم يرتد حتى مات تحت العذاب وهو ثابت على دينه.
وبلغها مقتله فاحتسبته عند الله، وأقسمت أن تقاتل مسيلمة حتى يقتل أو تقتل، فذهبت إلى اليمامة واشتركت في الموقعة التي قتل فيها مسيلمة، وأبلت بلاءً حسناً حتى قطعت يدها، ثم عادت من المعركة بيد واحدة، واستمر جرحها ينزف دماً حتى أدركتها الوفاة رضي الله تبارك وتعالى عنها.