للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاستغفار ودوره في أعمال العبد]

ثم قال عز وجل: (وَاسْتَغْفِرْهُ) قال البعض: إذا كان الاستغفار على الذنب فيكون الاستغفار في حق النبي صلى الله عليه وسلم زيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات؛ لأن الأنبياء معصومون عن الوقوع في المعاصي، فمثل هذه الآيات كثيرة في القرآن، فإنما تحمل على أن الاستغفار في ذاته عبادة يتعبد بها، وإن لم تقع معصية أصلاً.

والبعض قال: إن هذا من باب (حسنات الأبرار سيئات المقربين) أو من باب شعور الأنبياء بالتقصير في حق الله سبحانه وتعالى، ومن أجل ذلك ينسب إليهم الذنب.

أو أن التوبة هي دعوة الأنبياء والرسل، فهذا آدم عليه الصلاة والسلام يقول الله تعالى عنه: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة:٣٧]، ويقول نوح عليه الصلاة والسلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:٢٨] ويقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:١٢٨] فيكون هذا تعليماً منه صلى الله عليه وسلم لأمته حتى يستغفروه سبحانه وتعالى، وقيل: هو رفع لدرجاته صلى الله عليه وسلم.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (توبوا إلى الله، فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة).

إذاً التوبة هي دعوة الأنبياء، فتكون -أيضاً- من باب الاستكثار من الخير والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.

وجاء عند جميع المفسرين أنه صلى الله عليه وسلم منذ نزلت هذه السورة لم يكن يدع أبداً قول: (سبحانك -اللهم- وبحمدك) تقول عائشة رضي الله عنها: يتأول القرآن.

حيث روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: (ما صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة بعد أن نزلت عليه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:١] إلا يقول فيها: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي.

يتأول القرآن) وفيه عنها أيضاً: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك -اللهم ربنا- وبحمدك، اللهم! اغفر لي.

يتأول القرآن).

قال الحافظ ابن حجر: معنى (يتأول القرآن) يجعل ما أمر به من التهليل والتحميد والاستغفار في أشرف الأوقات والأحوال.

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: كأنه أخذه من قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:٣]، لأنه كان يجعل الاستغفار في خواتم الأمور، كان إذا سلم من الصلاة يقول: (أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر الله)، وإذا خرج من الخلاء كان يقول: (غفرانك)، وورد الأمر بالاستغفار -أيضاً- عند انقضاء المناسك في قوله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [البقرة:١٩٩].

إذاً: الاستغفار دائماً يكون في خواتيم الأمور ليجبر ما كان فيها من نقص أو مداخلة رياء.

فمن حق النبي صلى الله عليه وسلم علينا أن نتأسى به في ذلك.

وأمره صلى الله عليه وسلم بالاستغفار في خاتمة حياته في سورة التوديع التي نعي فيها إليه نفسه الشريفة صلى الله عليه وآله وسلم مع التسبيح فيه امتثال للأمر،، ومن باب الاحتراز من المعاصي، فيكون أمره بذلك مع عصمته أمراً لأمته، وأن الاستغفار من التواضع، وهو مع ذلك عبادة في نفسه.