[الاستغفار والتوبة]
ونحن لن نتكلم عن الأسباب المادية الأخرى؛ لأنه يستوي في العمل بها المؤمن والكافر والبر والفاجر، بل فتنة الناس إلا ما رحم الله هي في انشغالهم بطلب الدنيا إلى حد يلهيهم عن الآخرة، فنحن لن نتكلم عن الأسباب الطبيعية؛ لأن الناس ليسوا محتاجين إلى من يحثهم على هذه الأسباب، وهي معلومة للجميع، ويحرص عليها الجميع، لكننا سنقف عند الأسباب الحقيقية القلبية والدينية التي يجهلها أكثر الناس، بل لا يعتقدون تأثيرها في باب طلب الرزق، فنحن هنا نثبت السبب أولاً ثم نذكر الأدلة على أنه مفتاح من مفاتيح الزرق.
يبدأ المصنف بعد المقدمة في ذكر أول أسباب الرزق، فمن أراد أن يستجلب الرزق الحلال المبارك فأول ما يستنزل به ذلك الاستغفار والتوبة إلى الله سبحانه وتعالى: فالاستغفار والتوبة من أسباب الرزق، وليس المراد مجرد الاستغفار والتوبة باللسان كتوبة الكذابين، لكن الاستغفار والتوبة لا بد أن يكونا من القلب، وينعكس أثرهما بعد ذلك على الجوارح.
يقول الراغب الأصفهاني: التوبة في الشرع: ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط منه، والعزم على ترك المعاودة، وتدارك ما أمكنه أن يتدارك من الأعمال بالإعادة، فمتى اجتمعت هذه الأربع فقد كمل فرائض التوبة.
وقال الإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: التوبة واجبة من كل ذنب، فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله -لا تتعلق بحق آدمي- فلها ثلاثة شروط: أحدها: أن يقلع عن المعصية وألا يتمادى على الذنب، يعني: فمن لم يترك المعصية فأين التوبة وحاله يكذب مقاله؟! الثاني: أن يندم على فعلها.
الثالث: أن يعزم -يعني: في المستقبل- على ألا يعود إليها.
فإذا فقد أحد هذه الثلاثة الشروط لم تصح هذه التوبة.
وإذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي فيضاف إلى هذه الشروط شرط رابع، وهو أن يبرأ من حق صاحبها، فإن كان مالاً رده إليه، وإن كانت مظلمة ونحوها مكنه من القصاص أو طلب عفوه، وإن كانت غيبة استحلها منه.
أما الاستغفار فهو طلب المغفرة بالمقال والفعال، يقول تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:١٠]، فلم يؤمروا بأن يسألوه ذلك باللسان فقط، بل بالقول وبالقلب، قيل: الاستغفار باللسان من دون الفعال من فعل الكذابين، فاستغفار الكذاب أن يستغفر بلسانه وهو متماد في معصية الله تبارك وتعالى.
الأدلة على أن الاستغفار والتوبة من الأسباب التي يستنزل بها رزق الله سبحانه وتعالى كثيرة منها: قوله عز وجل حاكياً عن نوح عليه السلام أنه قال لقومه: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:١٠ - ١٢]، وهذه الأفعال كلها واقعة في جواب الأمر: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا)، والمعنى: إن استغفرتم ربكم يرسل السماء عليكم مدراراً، ويمددكم بأموال وبنين، ويجعل لكم جنات، ويجعل لكم أنهاراً.
فلابد أولاً أن يتحقق الاستغفار، (استغفروا ربكم) أي: اسألوه العفو والمغفرة، (إنه كان غفاراً)، فسوف يقبل توبتكم ويغفر لكم (يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا)، أي: ينزل عليكم المطر يتبع بعضه بعضاً، (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ)، أي: يكثر لكم أموالكم وأولادكم، (وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا)، أي: بساتين وأنهاراً.
يقول القرطبي رحمه الله تعالى: في هذه الآية والتي في هود، وهي قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} [هود:٥٢] دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار.
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره: إذا تبتم إلى الله تعالى واستغفرتموه وأطعتموه كثّر الرزق عليكم، وأسقاكم من بركات السماء، وأخرج لكم من بركات الأرض، وأنبت لكم الزرع، وأدر لكم الضرع، وأمدكم بأموال وبنين: أي: أعطاكم الأموال والبنين والأولاد، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمر، وخللها بالأنهار الجارية بينها.
وقد تنفس أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه بما جاء في هذه الآيات حينما صلى بالمسلمين صلاة الاستسقاء، فقد روى مصرف عن الشعبي أن عمر رضي الله تعالى عنه خرج يستسقي بالناس، فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فقيل له: ما سمعناك استسقيت! -يعني: ما قلت: اللهم اسقنا، وهي صلاة استسقاء، فلماذا اقتصرت على الاستغفار؟ - فقال: طلبت الغيث بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر).
المجاديح: أنواء معينة من النجوم كانوا يعتقدون أنها من الأنواء الدالة على المطر، فهو هنا يخاطبهم بما يعرفون، لا أنه يعتقد أن الأمطار تكون بالأنواء.
ثم قرأ عمر رضي الله تعالى عنه: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح:١٠ - ١١] إلى آخر الآيات.
كذلك أمر الحسن البصري رحمه الله تعالى بالاستغفار كل من جاء إليه شاكياً الجدب أو الفقر أو قلة النسل أو جفاف البستان، قال الربيع بن صبيح: شكا رجل إلى الحسن القحط والجفاف، فقال له: استغفر الله، وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله، وقال له آخر: ادع الله أن يرزقني ولداً، فقال له: استغفر الله، وشكا إليه آخر جفاف بستانه فقال له: استغفر الله! قال: فقلنا له في ذلك.
يعني: سألوه ما سر هذا؟! لماذا لا تنصح هؤلاء إلا بالاستغفار مع تنوع حاجاتهم؟! قال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أنواعاً من البلاء فأمرتهم كلهم بالاستغفار، فقال: ما قلت من عندي شيئاً، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا} [نوح:١٠ - ١٢].
ومثل هذه الآيات قوله تبارك وتعالى حينما قص علينا دعوة هود عليه السلام قومه: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:٥٢] فأمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير ما مضى من الذنوب، والتوبة عما يستقبلون، فمن اتصف بهاتين الصفتين يسر الله سبحانه وتعالى له رزقه، وسهل أمره، وحفظ فعله، ولهذا قال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود:٥٢].
ومثلها أيضاً قوله تبارك وتعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود:٣]، (يمتعكم متاعاً حسناً)، أي: يتفضل عليكم بسعة الرزق ورغد العيش، ولا يستأصلكم بالعذاب كما فعل بمن أهلك قبلكم.
وقد رتب الله هذا الجزاء على الاستغفار والتوبة.
ومما يدل أيضاً على كون الاستغفار والتوبة من مفاتيح الرزق: ما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أكثر الاستغفار، وفي رواية: من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب) وهذا الحديث ضعفه بعض العلماء وحسنه بعضهم.
(من أكثر الاستغفار): من غلب عليه كثرة طلب المغفرة من الله سبحانه وتعالى عند صدور معصية أو ظهور بلية.
أو: (لزم الاستغفار): داوم عليه فإنه في كل وقت محتاج إليه، ولذا صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً) يعني في الآخرة، وكأنه عليه السلام لم يقل: طوبى لمن استغفر كثيراً؛ لأنه يشترط في الاستغفار حتى ينفع الإنسان أن يكون مخلصاً، ولا يثبت في الصحيفة إلا الاستغفار الذي صدر عن إخلاص وعن صدق وعن توافق بين القول والعمل، فلذلك قيده بأن يجد ذلك في صحيفته، وليس بمجرد صدور الاستغفار عنه، فقوله هنا: (من أكثر الاستغفار أو من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً)، أي: جعل له من كل غم يغمه خلاصاً، (ومن كل ضيق مخرجاً)، أي: من كل شدة ومحنة طريقاً واسعاً يخرجه إلى سعة وفسحة، (ورزقه من حيث لا يحتسب) يعني: رزقاً حلالاً طيباً من حيث لا يظن ولا يرجو ولا يخطر بباله.