[الفطام الرضاعي والفطام النفسي]
أيضاً هذه مشكلة شائعة، وعندما تبدأ تدرس حالة نفسية لرجل كبير تقول له: كيف تم الفطام؟ لأن موضوع الفطام الشائع الآن في مجتمعنا للأسف الشديد يجري بطريقة مؤلمة.
الفطام باختصار شديد لا يبدأ بعد سنة أو سنتين، لكن يبدأ منذ الشهور الأولى من الإرضاع، بمعنى أنه لابد أن يكون بطريقة متدرجة، فتبدأ الأم تعطيه بجانب الرضاع الطبيعي وجبات معينة معروفة بطريقة معينة تدريجية، بحيث إنه وقت الفطام يكون قد قل عدد مرات الرضاع، وفي نفس الوقت يستغني عن الرضاع الطبيعي، ولا تشكل له مشكلة حياته، لكن المصيبة كلها في الفطام المفاجئ، وهذه تسبب أزمة نفسية حادة بالنسبة للطفل، وتعتبر إساءة بالغة للطفل، والأشد إساءة من ذلك: الطريقة الوحشية التي يستعملها البعض حينما يضعون نبات الصبار البالغ المرارة في الموضع الذي يرضع منه، لكي يصطدم الصبي صدمة نفسية قاسية تمنعه من أن يرضع لأنه سيكره هذا الفعل، وهذا تصرف بدائي ومتخلف وفي غاية الأذية للطفل، يسبب له صدمة شديدة، والطفل ينفعل بهذه الأشياء، ولا أريد أن أطيل في هذه القضية حتى لا نخرج عن الموضوع.
الفطام النفسي من المفروض أن يحصل للكبار؛ وهذه أيضاً من المشاكل، فالأب والأم لابد أن يحذرا من النظرة الدائمة إلى الطفل على أنه صغير، وهذه نظرة خطيرة كنا نستخدمها في المجتمع من غير أن نلتفت إلى ضررها؛ فمن رأى طفلاً في الابتدائي أو قبل الابتدائي تظل تلك الصورة مرتسمة في ذهنه فلا يريد أن يعترف بأنه الآن قد صار رجلاً، ودائماً يصطحب هذه الصورة ولا يريد أن يلغيها من مخيلته، فلابد من الحذر من هذا الطفل، كان رضيعاً ثم ها هو شاب قوي يافع، فلا ينبغي أن تعامله على أنه طفل، وهذه مشكلة توجد في كثير من التعاملات الخاصة بين الوالدين، وبالتالي هذه أذية له؛ لأنهم لا يساعدونه على النمو الطبيعي حيث الشعور بالمسئولية والاستقلال.
فالفطام النفسي بمعنى: أنه لا يحصل له الاستقلال الوجداني عن الآخرين، ويشعر أنه أسير لإرادة الأبوين، فلا يستطيع أن يوجه عواطفه، أو يأخذ قراراته، أو يستقل عن الآخرين، وهذه قد تكون أكثر ظهوراً مع الأم، حيث تحدث عملية اندماج وجداني وعاطفي يؤثر على الأولاد.
فعملية التعلق الشديد بالأولاد خاصة من جهة الأمهات، وكأنهم في سنة أولى في المدرسة، فتذهب معهم إلى لجنة الثانوية العامة، وتتابع الخطوات معهم، وتصحبهم من البيت إلى باب المدرسة، وتقف أمام باب المدرسة تبكي وكأن ابنها مازال طفلاً لا يمكنه أن يذهب بنفسه إلى الامتحان ويصمد في اللجنة.
ما هذه الطفولة؟ ما هذه الحماية الزائدة؟ أصبح رجلاً ويدرس في الجامعة ولا زالت تمشي معه لكي توصله إلى اللجنة، ثم تقف حتى ينتهي.
هذا سيؤثر على نفسية الشاب الذي دخل الامتحان.
أو مثلاً يريد أن يعبر الشارع فيأخذ بيده لكي يعبره، ويكون ابنه قد بلغ عشرين سنة أو أكثر.
هذه حماية زائدة، وهذا خطأ في التربية، وهذا مما يعكس عدم الثقة به، ويمدد فترة الطفولة بالنسبة لهذا الشاب.
فالأم تظل علاقتها بالابن أو البنت وكأنه يرضع، هذا معنى الفطام النفسي، لا تريد أن تنفطم عنه وتعترف بأنه قد أصبح له كيان مستقل، وهذه تأخذ تفاصيل كثيرة، بالذات بعد ما يتزوج الابن وتحصل بعدها عملية الفطام النفسي، وتسبب له مشاكل كثيرة، مثلاً: التدخل في تفاصيل الحياة، وطلب تقرير مفصل عن كل تصرفات هذا الرضيع الذي لم يفطم حتى الآن فطاماً نفسياً، فالتدخل في أخص الخصوصيات، والتقارير مستمرة عن كل تصرفاته، ولا يزال التصرف هو نفسه جارياً وحتى الآن منذ كان طفلاً رضيعاً.
صورة أخرى من مظاهر انعدام الفطام النفسي: الإغداق على الابن بالأموال الطائلة في سبيل أن يرضيه، فهذا أيضاً من مظاهر التعلق المرضي.
ومن مظاهر عدم التمتع بالفطام النفسي عند الوالدين: أن هذا الحب الشديد لو انقلب لكراهية يأتي بأمور لا تحمد عقباها.
عدم الفطام النفسي بالنسبة للوالدين أو بالنسبة للولد نفسه يجعله يمشي بشخصية اعتمادية على الآخرين، ودائماً لا يقدر أن يتحمل مسئولية نفسه، وهذا غالباً ينتج عنه الفشل في الزواج؛ لأنه لم يصعد إلى مستوى الفطام النفسي، فهو لا يشعر أنه انفصل عن البيت الذي خرج منه، ويولد أيضاً مشاكل أخرى في العلاقة الزوجية تحصل نتيجة عدم الفطام النفسي.
ومن المظاهر: التوقف عن اتخاذ أي قرار لانعدامية الاستقلال الذهني أو الوجداني، لابد أن تكون نتيجة هذه التربية الخاطئة هكذا.
أيضاً: سهل جداً عليه أن ينخدع بالكبار؛ لأنه دائماً تعود الاعتماد عليهم، وألا يأخذ القرارات بدونهم؛ فالبتالي ممكن أن يسرق بسهولة من قبل النصابين والمحتالين وغيرهم.
خلاصة الكلام: أنه حتى يحرز الوالدان الفطام النفسي لابد أن يقفا على الفروق لمراحل العمر المختلفة، وكل مرحلة لها خصائصها، فينبغي أن يخف هذا التعلق كلما تقدم الابن في النمو، ويبدأ الأب والأم بنفسيهما فإذا انفطموا هم عن هذا الولد، فلابد أن يفهم هو أيضاً أن الحب الحقيقي للولد هو أن يصنع منه رجلاً يستطيع أن يأخذ قراراته ويتمتع بحرية الاختيار.