[الانعكاسات السلبية على الفرد والمجتمع بكثرة التتبع]
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى معلقاً على هذه الآية الكريمة بقوله في (إعلام الموقعين): لم ينقطع حكم هذه الآية.
يعني: الأدب أو الحكم المأخوذ من هذه الآية لم يكن مختصاً بهؤلاء الذين نزلت فيهم وإنما هو حكم عام باق.
فيقول ابن القيم رحمه الله: لم ينقطع حكم هذه الآية، بل لا ينبغي للعبد أن يتعرض للسؤال عما إن بدا له ساءه، بل يستعفي ما أمكنه ويأخذ بعفو الله.
ومن ههنا قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لما سأله رفيقه عن مائه أطاهر أم لا؟ (لا تسأل) لأن الأصل في الماء الطهارة، فالذي كان يمشي مع عمر سأل صاحب الميزاب عن طهارة ذلك الماء، فقال عمر: (يا صاحب الميزاب! لا تخبرنا) لأن الذي سقط ماء، والأصل في الماء الطهارة، فإذا كنت تمشي بجانب مستنقع من الماء وهناك سيارة تسير بسرعة قذفت بالماء عليك -مثلاً- فلا تبحث عنه، أنت غير مكلف بهذا، ولكن إذا خالفت هذا الأدب وظللت تسأل وتستتبع فقد يظهر لك ما يسوؤك فتصير ثيابك نجسة مثلاً، لكن أنت متعبد بعلمك الذي هو اصطحاب أصل الطهارة في كل المياه والتراب.
كذلك نلاحظ بعض الناس يريد أن يصلي في البيت -مثلاً- فيحضر السجادة، فهذا يقال له: صل على أي شيء من تراب أو فرش، ودع الوسوسة بهذه الطريقة، فأنت غير مطالب بالتحري في أي مكان في الأرض، بل صل فقط، أما أن تتتبع وتفتش وتقول: لعل ولعل فلا.
فما دمت لم تر دليلاً حسياً على النجاسة أمامك فابن على الأصل ولا تتعنت، هكذا الإسلام في سماحته وسهولة أحكامه ويسره، وفي الحديث؛ (بشروا ولا تنفروا، ويسروا ولا تعسروا) فخذ الأمور ببساطة، فإذا زرت أخاك المسلم فقدم لك الطعام فلا تسأل عنه، ولا تقل له: من أين هذا؟ أو تسأل عن اللحم من أين، أو الجزار يصلي أو لا يصلي، فأنت غير مطالب بهذا، والأصل أن المسلم يتقي الله، فتأكل مما قدمه لك، وأنت غير مطالب بتتبع هذا الأمر.
هذا هو الأصل، أما إذا ظهر لك ما ينقلك عن الأصل فهذا شيء يعتبر، لكن لا تفتش عن أشياء قد تضيق عليك حياتك، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: (إذا زار أحدكم أخاه فأكل أو شرب عنده فلا يسأله) لا تسأله، واستصحب هذا الأصل.
يقول ابن القيم: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له).
وأحياناً بعض الناس لا يقنع بمعاملة العبيد مع العبيد حتى يعامل الناس كأنه رب وهؤلاء العباد عبيد له.
فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بنا أنه لا يطلع على ما في صدور الناس إلا الله سبحانه وتعالى رب الناس، أما بعض الناس فإنه يفتش ويتحرى حتى يستتبع خبايا الأمور ودخائل النفوس، وبالتالي يبدأ يحصر نفسه في محيط من العداوات، ولن تستقيم له الحياة أبداً؛ لأنه يحاول أن يتعامل معهم كرب، والرب هو الذي يطلع على ما في القلوب، فاقبل من الناس ظاهرهم ودع عنك باطنهم.
وكنت منذ سنوات بعيدة جداً سمعت عن قصة أو رواية اسمها (نظارة الحقيقة)، هذه النظارة اخترعها رجل زعم أن من لبسها جعلت كل من يحدثه يكلمه بما في قلبه، فيأتي لرجل يتكلم مع زوجته ويسلط عليه نظارة الحقيقة، وبعد أن يكون معها بغاية اللطف والمجاملة إذا به ينقلب الحوار ويكشف كل الأحقاد التي في نفسه تجاهها، ثم إذا سلطها على الآخر يحصل نفس الشيء وهكذا، فظل الرجل يستعمل هذه النظارة فوجد أن الحياة ستصبح جحيماً لا يطاق بسبب أن الناس ستتعامل على حقيقة ما في بواطنها، فمن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل خبايا النفوس مستورة، فاقبل من الناس ما يظهرون، ولا تفتش عن الخبايا؛ لأنك لو فتشت ستطَّلع على ما يسوؤك ويؤذيك، فعامل الناس على أنك عبد مثلهم لا تعلم ما في صدورهم.
ولو أن الإنسان تتبع، وظل يسأل ويحاور ويفتش ويسأل عن النوايا ويتتبعها، فلو قدر أنها كشفت له فهي -قطعاً- سوف تسوءه، والستر سينكشف، والنفس ستفتضح، ومن ثم نعيش في جو بحر من العداوات والأحقاد، ولا يمكن أبداً أن تستقيم معه حياة، فمن رحمة الله أن تترك الأمور مستورة لا تفتش ولا تنقب.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: (وكذلك لا ينبغي للعبد أن يسأل ربه أن يبدي له من أحواله وعاقبته ما طواه عنه وستره، فلعله يسوءه إن أبدي له، فالسؤال عن جميع ذلك تعرض لما يكرهه الله سبحانه وتعالى؛ فإنه سبحانه وتعالى يكره إبداءها ولذلك سكت عنها).
يقول القاسمي معلقاً على كلام ابن القيم: (وما ذكره من التعميم هو باعتبار ظاهرها، ويدل له ما رواه له البخاري عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته).
فقوله: (إن من أعظم المسلمين جرماً يعني: عقوبة.
فإذا كان السؤال الذي سأله كان بسببه تحريم شيء كان حلالاً فهذا إنسان يعاقب، وهو من أعظم المسلمين جرماً عند الله سبحانه وتعالى، وهذا يجسد لنا خطورة موضوع تتبع الأسئلة بهذه الطريقة، (إن أعظم المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته)، ومثل ذلك قد أمن الآن؛ لأن التحريم قد انقطع بانقطاع الوحي.