[خطبة النبي صلى الله عليه وسلم لجليبيب امرأة من الأنصار]
وعن ثابت البناني عن أنس رضي الله عنه قال: (خطب النبي صلى عليه وسلم على جليبيب امرأة من الأنصار) وهذا الخبر مما يطلعنا على بعض من سيرة جليبيب وشدة محبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، فرغم أن جليبيباً كان في وجهه دمامة إلا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحبه؛ لأن الله ورسوله لا ينظران إلى الصور والأشكال، وإنما إلى القلوب والأعمال، فمن ثم كان له هذه المكانة الخاصة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه خطب على جليبيب امرأة من الأنصار: (فلما حدث في ذلك أباها قال: حتى أستأمر أمها.
فقال النبي صلى عليه وسلم: فنعم إذاً.
فانطلق الرجل إلى امرأته فذكر ذلك لها، فقالت: لا هاالله! إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) (لا هاالله!) تعني: هذا يميني فكلمة (لا) هي لنفي كلام الرجل الذي أبلغهم هذا أو زوجها، و (هاالله) الهاء بالمد والقصر، بمعنى واو القسم، ولفظ الجلالة مجرور بها، و (إذاً) جواب القسم: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟) وإنما قالت المرأة ذلك لأن جليبيباً رضي الله عنه كان في وجهه دمامة.
تقول: (إذاً ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبيباً؟! وقد منعناها من فلان وفلان! قال: والجارية في سترها تستمع) أي أن الجارية كانت في الخدر أو في الستر تستمع لهذا الحوار من وراء الستر، قال: (فانطلق الرجل يريد أن يخبر النبي صلى عليه وسلم بذلك، فقالت الجارية: أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟! إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه) جعلتهم يفيقون من هذا المسلك الذي يسلكونه لرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:٣٦] وفي رواية أنها قالت: (ادفعوني إليه؛ فإنه لن يضيعني) أي: ما دام هذا هو اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم فينبغي أن نسمع له ونطيع: (فكأنها جلت عن أبويها) يعني: فكأنها كشفت وأوضحت أمراً خفي عليهما، حتى كأنهما أفاقا من هذه الغشاوة التي جعلتهما يكادان يقعان في معارضة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبالفعل أجابا في الوقت، وقالا لها: (صدقت.
فذهب أبوها إلى النبي صلى عليه وسلم، فقال: إن كنت قد رضيته فقد رضينا.
قال: فإني قد رضيته، فزوجها، ثم فزع أهل المدينة) يعني: حصل بعد ذلك أن أخافهم العدو (فركب جليبيب) يعني: كان جليبيب في أول من خرج في مواجهة هؤلاء المشركين: (فركب جليبيب، فوجدوه قد قتل وحوله ناس من المشركين قد قتلهم).
قال أنس: (فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت في المدينة) يعني أن هذه المرأة التي تزوجها جليبيب رغم أنها كانت ثيباً بعد الزواج لكن مع ذلك كانت من أنفق بيت في المدينة، وكلمة أنفق هنا مأخوذة من النَّفاق -بفتح النون- وهو ضد الكفاف، ويقصد بالنفاق الرواج، كما جاء في الحديث: (إن الحلف ينفق ثم يمحق) أي أن التاجر حينما يحلف على بضاعته فإن هذا يروجها وينفقها، لكنه يمحق البركة بعد ذلك.
فالمقصود أنها كانت أعظم امرأة أيم في بيوت المدينة، بحيث كان يتسابق إليها الخطاب بعد قتل جليبيب، وذلك ببركة كونها رضيت بنكاح جليبيب الذي كان ينفر منه الناس، وببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لها.
وهذا الحديث الأخير صحيح على شرط الصحيحين، رواه أحمد وأبو يعلى مختصراً، ويشهد له حديث أبي برزة السابق عند مسلم.
وفي رواية قال ثابت: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها).
وحدث إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة ثابتاً فقال: هل تعلم ما دعا لها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: (اللهم! صب عليها الخير صباً، ولا تجعل عيشها كداً كداً) قال: (فما كان في الأنصار أيم أنفق منها) والأيم: المرأة التي ليس لها زوج بكراً كانت أم ثيباً.
والشاهد من الحديث الوارد في شأن جليبيب رضي الله تعالى عنه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه) ففي هذا إشارة -كما ذكرنا- إلى اتحاد طريقهما، وأنهما كانا كأنهما جسد واحد، فقوله: (هذا مني) أي: كأنه قطعة مني أو بضعة مني (وأنا منه) مبالغة في بيان اتحاد الطريق والسبيل، ولهذا التعبير عن اتحاد الطريق بهذه العبارة نظائر، منها: ما روى أبو موسى الأشعري رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو أو قل طعام عيالهم في المدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد، ثم اقتسموه في إناء واحد بالسوية، فهم مني وأنا منهم) متفق عليه.