ظل الصليبيون في بيت المقدس يشيعون فيه الإفساد مدة إحدى وتسعين سنة، إلى أن أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب، فالحقيقة أن هذا الأمر مما يلفت النظر، فالقدس صارت لسنوات كثيرة في يد الصليبيين أطول مما صارت الآن في يد اليهود لعنهم الله.
فالسنوات في عمر الدعوات هي ثوانٍ ولحظات في الحقيقة، فمهما طال الأمد فلابد أن تعلو كلمة الله تبارك وتعالى، وقد جاءنا الخبر من النبي صلى الله عليه وسلم أن الإسلام سيظهر في الشام، وأن خلافة داود في بيت المقدس؛ حتى لا يصيب المسلمين اليأس، فمهما طال العهد بهؤلاء اليهود فإن من سبقوهم مكثوا في القدس أكثر مما مكثوا، وعلوا في الأرض أكثر مما علوا.
أذن الله بالنصر للسلطان الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد توجه نهار الأحد الخامس عشر من رجب فنزل بجيشه غربي بيت المقدس، ثم انتقل إلى الجانب الشمالي، وخيم هناك، وضيق على الإفرنج المسالك، ونصب المجانيق، وضرب على المدينة حصاراً انتهى بتسليم الصليبيين إياها يوم الجمعة السابع والعشرين من رجب سنة ثلاث وثمانين وخمسمائة، فاتفق الفتح في اليوم الذي كان فيه حادثة الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومما يرطب قلوبنا ويحيي الأمل في نفوسنا أن نطالع ما حدث في ذلك اليوم العظيم، كما حكاه الإمام ابن كثير رحمه الله تبارك وتعالى، وقد صحح الحافظ ابن كثير أن صلاة الجمعة أقيمت في الجمعة المقبلة، وليس في أول جمعة؛ لأنهم لم يتمكنوا من إقامتها يومئذ لضيق الوقت، وإنما أقيمت في الجمعة المقبلة، وكان الخطيب محيي الدين بن محمد بن علي القرشي بن الزكي.
يقول ابن كثير: لكن المسلمين نظفوا المسجد الأقصى مما كان فيه من الصلبان والرهبان والخنازير، وخربت دور الداوية، وكانوا قد بنوها غربي المحراب الكبير، واتخذوا المحراب مشتاً لعنهم الله، فنظف من ذلك كله، وأعيد إلى ما كان عليه في الأيام الإسلامية، وغسلت الصخرة بالماء الطاهر، وأعيد غسلها بماء الورد والمسك الفاخر، وأبرزت للناظرين، وقد كانت مستورة مخبوءة عن الزائرين، وأنزل الصليب عن قبتها، وعادت إلى حرمتها.
وقد كان الفرنج قلعوا منها قطعاً فباعوها من أهل البحور الجوانية بزنتها ذهباً، فتعذر استعادة ما قطع منها، ثم قبض -أي: السلطان صلاح الدين - من الفرنج ما كانوا بذلوه عن أنفسهم من الأموال، وأطلق السلطان خلقاً منهم من بنات الملوك بمن معهن من النساء والصبيان والرجال، ووقعت المسامحة في كثير منهم، وشفع في أناس كثير منهم فعفا عنهم، وفرق السلطان جميع ما قبض منهم من الذهب في العسكر، ولم يأخذ منه شيئاً مما يقتنى ويدخر؛ فقد كان رحمه الله حليماً كريماً مقداماً شجاعاً رحيماً.