[حكم إسبال الثياب للرجال]
إن موضوع طول الإزار أو طول الثياب يحتاج إلى بيانٍ شافٍ لعلنا نأتي على شيء من هذا البيان فيما يلي: إن تكرار كلمة (الإزار) في كثير من الأحاديث النبوية سببه أن ملابس الصحابة في ذلك الزمان كان أغلبها هو الإزار، لكن أصبح لبس الإزار اليوم قليلاً جداً، ومع هذا فالإزار والقميص لهما نفس الحكم؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإزار فهو في القميص) فحكمهما واحد.
وعن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي -واسمها رهم - تحدث عن عمها -وهو عبيد بن خالد المحاربي - قال: (بينا أنا أمشي بالمدينة إذا إنسان خلفي، يقول: ارفع إزارك)، أي: ارفع إزارك عن الأرض، حيث كان يجر إزاره وثيابه، (ارفع إزارك؛ فإنه أتقى)، وفي رواية أخرى: (فإنه أنقى)، أي: أنقى لهذا الثوب، (فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء)، وهو كساء مخطط فيه بياض وسواد، والمعنى أنها بردة مبتذلة أو ثوب مبتذل ليس فيه زينة، فجرّها لا يؤدي إلى الخيلاء، (قال: أما لك فيّ أُسوة؟! فنظرتُ، فإذا إزاره إلى نصف ساقيه صلى الله عليه وسلم).
وعن سلمة بن الأكوع قال: كان عثمان بن عفان رضي الله عنه يأتزر إلى أنصاف ساقيه، وقال: هكذا كانت إزرة صاحبي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم.
إزرة: اسم هيئة على وزن فِعْلة.
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: (إني أرجو أن أكون أخشاكم لله)، فمن خشيته لله سبحانه وتعالى أنه كان يتواضع ويقصر إزاره.
وهناك حد أدنى لثياب المسلم قد حَدّهُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، وعليّ إزار يتقعقع) أي: كالإزار الجديد، والتقعقع: هو تحريك الشيء اليابس الصلب بصوت، (فقال: من هذا؟ قلت: عبد الله بن عمر، قال: إن كنت عبد الله) أي: العبد المتواضع لله والذليل لله (فارفع إزارك) ولم يسأله: هل أنت فعلته للخيلاء فيحرم؟ أم فعلته بغير خيلاء فيجوز؟ لكن الأمر مطلق كما نلاحظه في أغلب الروايات، قال: (فرفعته، قال: زِدْ، فرفعته حتى بلغ نصف الساق).
فهذا ابن عمر الذي هو من أفاضل الصحابة ومن أتقاهم رضي الله عنهم، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إرخائه لإزاره، بل أمره أن يرفعه، مما يدل على أن هذا الأدب ليس مقصوداً به النهي عن الخيلاء، ولو رأى النبي صلى الله عليه وسلم هؤلاء الذين يطيلون ثيابهم في هذا الزمان لأنكر عليهم من باب أولى.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً قال: (مررتُ على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي إزاري استرخاء، فقال: يا عبد الله ارفع إزارك، فرفعتُه، ثم قال: زد، فزدتُ، فما زلت أتحرّاها بعد)، أي: أتحرّى الحدّ الذي حدّهُ النبي صلى الله عليه وسلم، (فقال بعض القوم: إلى أين؟ قال: أنصاف الساقين) يعني: إلى أنصاف الساقين.
وكما سبق في حديث أبي جُريّ جابر بن سُليم، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: (وارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين).
إذاً: نصف الساق موضع استحباب، أما المباح والجائز فإلى الكعبين، وهما العظمان الناتئتان في أسفل الساق وأعلى القدم.
ثم قال: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخِيْلة، وإن الله لا يحب المخِيْلة)، فوضح النبي عليه الصلاة والسلام أن أصل الإسبال هو من المخيلة، كما في قوله: (وإياك وإسبال الإزار؛ فإنها من المخيلة) أي: نوع من أنواع المخيلة، والمخيلة قد تكون في خُلُق الإنسان، أو التكبر في مشيته، أو في أي شيء من تصرفاته، ومن هذه التصرفات: إسبال الإزار، فإسبال الإزار هو أحد أعراض مرض المخيلة والكبر والبَطَر.
وعن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه قال: سألت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عن الإزار فقال: على الخبير سقطت، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المسلم إلى نصف الساق، ولا حرج -أو لا جناح- فيما بينه وبين الكعبين، وما كان أسفل من الكعبين فهو في النار، قالها ثلاث مرات)، وقال: (من جرّ إزاره بطراً لم ينظر الله إليه).
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: (أخذ رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم بعضلة ساقي أو كاحلي، فقال: هذا موضع الإزار، فإن أبَيْت فهذا، ثم أنزل، فقال: فإن أبيت فهذا، ثم طأطأ قبضة أخرى، وقال: فإن أبيت فهذا، حتى وصل إلى الكعبين، فقال: فإن أبيت فلا حق للإزار في الكعبين).
فالمسلم لو أن عنده يقين بهذا التهديد وهذا الوعيد وكان الثوب تحت الكعبين لَشَعَر بالنار تلسعه في عقبه، إذا كان فعلاً يؤمن بهذا الوعيد أن هذا الموضع الذي يغطى بالثوب بعد الكعبين فهو في النار.
وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإزار إلى نصف الساق، فلما رأى شدة ذلك على المسلمين قال: إلى الكعبين، لا خير فيما أسفل من ذلك).
فهذه الأحاديث كلها تصرح تصريحاً ظاهراً بأن المسلم يجب عليه أن يرتدي ثياباً لا تزيد في طولها على الكعبين، ويستحب له أن يجعلها إلى أنصاف الساقين، وعاقبة من خالف هذا الأمر هي ما جاء في الأحاديث السابقة، وكذلك في الأحاديث الآتية، فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار)، وكما ذكرنا أن أغلب لباس الصحابة كان الإزار، فلذلك تكثر كلمة (الإزار) في الأحاديث، وتأتي أحياناً ألفاظ عامة كـ (الثوب) فتعمّ سائر أنواع اللباس على القول الراجح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إزرة المؤمن إلى عضلة ساقيه، ثم إلى نصف ساقيه، ثم إلى كعبيه، فما كان أسفل من ذلك ففي النار)، يعني: ما زاد من الكعبين فهو في النار.
قوله: (فهو في النار) معناه: أن ما دون الكعبين من قدم صاحبه فهو في النار؛ عقوبة له على فعله، فالمكان الذي يغطى في أسفل الكعبين بالإزار أو نحوه يكون عقابه في النار جزاء لهذا العمل.