للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الرجال]

هذا الشاعر المخضرم: العباس بن مرداس أمه الخنساء الشاعرة المعروفة، وهذا أدرك الجاهلية والإسلام، وأسلم قبيل فتح مكة، وكان من المؤلفة قلوبهم يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه وفي أثوابه أسد هصور ويعجبك الطرير فتبتليه ويخلف ظنك الرجل الطرير فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير بغاث الطير أكثرها فراخاً وأم الصقر مقلاة نزور ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور لقد عظم البعير بغير لب فلم يستغن بالعظم البعير يصرفه الصبي بكل وجه ويحبسه على الخسف الجرير وتضربه الوليدة بالهراوى فلا غير لديه ولا نكير فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير يقول: ترى الرجل النحيف فتزدريه.

أي: أن النحيف مظهره رث.

قوله: وفي أثوابه أسد مزير.

المزير: هو العاقل الحازم يقال: مزر الرجل مزاره إذا اشتد قلبه وقوي.

قوله: ويعجبك الطرير فتبتليه.

الطرير: هو الشخص ذو المنظر والرواء والهيئة الحسنة، وترى منظره يعجبك، فتبتليه وتحتاجه تفتش وراء هذه الثياب وهذا المظهر.

ويخلف ظنك الرجل الطرير.

أي: يكون إنسانا تافهاً.

قوله: فما عظم الرجال لهم بفخر ولكن فخرهم كرم وخير يعني: هذا هو الذي يفتخر به الرجال الكرام ليس بالهيئة وبالعضلات وبالمظاهر، لكن بالكرم وبالخير والخصال الجميلة.

قوله: بغاث الطير أكثرها فراخاً.

البغاث: الضعاف من الطير الذي لا يستطيع أن يصطاد.

قوله: وأم الصقر مقلاة نزور يعني: هي التي تضع واحداً فقط ثم لا تحمل بعد ذلك فهي نزور بمعنى قليل.

قوله: ضعاف الطير أطولها جسوماً ولم تطل البزاة ولا الصقور البازي والصقر أقوى، قوله: لقد عظم البعير بغير لب.

يعني: الجمل يكون حجمه ضخماً جداً وكذلك الفيل.

قوله: فلم يستغن بالعظم البعير يعني: هل نفع البعير أن جسمه ضخم، وأن منظره ضخم؟ ماذا يحصل للبعير؟ قال: يصرفه الصبي بكل وجه يعني: الطفل الصغير يتحكم فيه؛ لأنه إنسان عنده عقل يتحكم بهذا الجسم الضخم ويسخره.

قوله: ويحبسه على الخسف الجرير.

يحبسه على الذل، والجرير: هو الحبل.

قوله: وتضربه الوليدة بالهراوى.

يعني: بالعصي.

فلا غير لديه ولا نكير.

فإن أك في شراركم قليلاً فإني في خياركم كثير وهذا الإمام النووي رحمه الله تعالى وهو شيخ الإسلام كان إذا رآه الرائي ظنه شيخاً من فقراء سكان القرى، فلا يأبه له، ولا يخيل إلى ذهنه أن الإمام النووي شيء يذكر، فإذا سمعه يدرس أو يقرر أو يحدث فغر فاه من التعجب، أهذا الرجل الذي رأيته من قبل واحتقرته بسبب رثاثة هيئته وتواضعه ومنظره البسيط يتكلم الآن بهذا الكلام؟! فهو عندما يحدث ويناظر ويقيم الحجج تنكشف شخصيته عن جوهر زكي وعبقرية نادرة في العلم والزهد والتقوى، ولا عجب فالتراب مكمن الذهب، ولكن الناس في كل زمان ومكان يغرهم حسن الهيئة وجمال الهندام، فإذا رأوا من هذا صفته وقروه وعظموه قبل أن يعرفوا ما وراء هذه البزة، وقد يكون فيها نخاع ضامر، وفكر بائر، وقلب حائر.

ترون بلوغ المجد أن ثيابكم يلوح عليكم حسنها وبصيصها وليس العلى دراعة ورداؤها ولا جبة من شية وقميصها ويقول الآخر: ليس الجمال بمئزر فاعلم وإن رديت بردا إن الجمال معادن ومحاسن أورثن مجدا