[طرق دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة ومصادرها]
ليس هناك دليل مادي على أمر التوحيد واتصال الأرض بالسماء بهذه الكيفية عند هؤلاء المستشرقين والباحثين، فالطريق الذي يسلكه جمهور الباحثين للوصول إلى هذا المطلب هو دراسة تاريخ أديان الأمم القديمة، عن طريق التنقيب في الحفريات والرمم والجثث المحنطة والآثار الحجرية، ثم البحث في أديان الأمم المعاصرة غير المتحضرة، وهذا هو المنهج الذي ارتضوه كي يصلوا إلى الحقيقة فيما يتعلق بقضية الدين.
وهم أيضاً متأثرون بفكرة النشوء والتطور، فلذلك هم يبحثون في هذين الخطين فقط في الأمم القديمة، والأمم المعاصرة غير المتحضرة، ولا يلتفتون إلى الدين؛ لأن الدين تخلف، والدين اختراع عتيق في متحف التاريخ، فالذي يريد أن يبحث في التاريخ ينبغي له أن يبحث عنه في الحفريات وفي طبقات الأرض (الجيولوجيا)، وفي تواريخ الأمم القديمة، وإذا كنا نبحث في القرون المعاصرة فعلينا أن نبحث في تاريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة، ويعتبر هؤلاء نهاية ما يعلمونه في القدم من أديان البشر، وما عليه الأمم الأشد تخلفاً من ممارسات دينية، صورة مطابقة لما كان عليه الإنسان الأول.
فزعموا أن ما عليه الأمم المتخلفة التي تعيش في المجاهل والأدغال الآن، والتي تعيش حياة الوحوش، هو صورة لما كان عليه الإنسان الأول.
أما بالنسبة للأديان القديمة، فليس لهم أي مصادر علمية، بل هو القول على الله بغير علم، ويستندون إلى النقوش والرسوم والرمم التي يستوحون منها ما يزعمونه قطعياً، ولما كانت تلك مصادر آرائهم اختلفت آراؤهم.
فذهب فريق إلى أن الدين بدأ بصورة الخرافة، وأن الإنسان أخذ يترقى في دينه على مدى الأجيال حتى وصل إلى الكمال فيه بالتوحيد، كما تدرج في علومه وصناعاته، حتى زعم بعضهم أن عقيدة الإله الأحد عقيدة حديثة، وأنها وليدة عقلية خاصة بالجنس الثاني.
وقد نادى بهذه النظرية أنصار المذهب التصوري الذي ظهر في أوروبا في القرن التاسع عشر، وذلك في أكثر من فرع من فروع العلم.
وهناك فريق آخر من هؤلاء الباحثين الماديين قال بفطرة التوحيد وأصالته، وأثبت أن عقيدة الخالق الأكبر هي أقدم ديانة ظهرت في البشرية، فردوا على أنصار المذهب الأول، ورفضوا ما قالوه، مع أن مسلكهما في تحديد بداية الدين مسلك واحد وهو: الوصول إلى ذلك عن طريق الرمم والنقوش والحفريات، وأيضاً دراسة تواريخ الأمم المعاصرة غير المتحضرة.
إنّ ممن أجاد وأفاد في هذا المبحث واكتشف فيه الدكتور محمد عبد الله دراز رحمه الله تعالى، وهو من علماء الأزهر الذين لم توفهم الصحوة الإسلامية حقهم من الاهتمام بكتبه النادرة، فهذا من العلماء المعاصرين الذين ابتكروا البحث في تاريخ الدين، وهو في عامة بحوثه مبتكر، ولا يكرر مثل الآخرين، بل تجد أفكاره ناضجة جداً، وللأسف الشديد أنه لم يأخذ حقه من الاهتمام، ولم تذع كتبه كما كان ينبغي لها أن تذاع.
يقول رحمه الله تعالى: أما من حيث الغاية التي يهدف إليها البحث فهي تحديد أصل العقيدة، والمظهر الذي ظهرت به في أول الأزمنة، وهذه المنطقة البدائية المحضة اعتبرها العلم شقة حراماً حظرها على نفسه، وأعلم بصراحة خروجها عن حدود علمه؛ لأنه سيخبر عن غيب، فكيف سيصل إلى هذه المنطقة البدائية؟ وبم سيتكلم عنها؟ أيرجم بالغيب؟! فلذلك نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى في مواضع كثيرة من القرآن يمتن على نبيه صلى الله عليه وسلم بأنه يخبره بأنباء الغيب، وجعل الله هذا دليلاً من أدلة صدق نبوته فقال: {ذَلِكَ مِنْ أنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران:٤٤]، وهكذا في كثير من الآيات مثل قوله: {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه:٩٩] إلى آخر الآيات.
فهناك آيات كثيرة في القرآن يمتن الله سبحانه وتعالى بها على نبيه عليه الصلاة والسلام بأنه يطلعه على بعض أخبار الغيب التي لا سبيل إليها إلا عن طريق الوحي.
ويقول: ومؤرخو الديانات على الخصوص معترفون بأن الآثار الخاصة بديانة العصر الحجري وما قبله لا تزال مجهولة لنا جهلاً تاماً، فلا سبيل للخوض فيها إلا بضرب من التكهن والرجم بالغيب.
وأما من حيث المنهج وهو الاستدلال على ديانة الإنسانية الأولى بديانة الأمم المنعزلة المتخلفة عن ركب المدنية فهذا مبني على أساس افتراض أن هذه الأمم كانت منذ بدايتها على الحالة التي وصل إليها بحثنا، وأنها لم تمر بها أدوار متقلبة، وهو افتراض لم يقم عليه دليل، بل الذي أثبته التاريخ واتفق عليه المنقبون عن آثار الأمم الماضية، هو أن فترات الركود والتقهقر التي سبقت مدنيتنا الحاضرة كانت مسبوقة بمدنيات مزدهرة، وأن هذه المدنيات قامت بدورها على أنقاض مدنيات بائدة قريبة أو بعيدة، وذلك في أدوار تتعاقب على البشرية.
فانظر إلى قدماء المصريين، فقد كانوا في فترة زمنية قريبة، وليست بالسحيقة كالقرون الأولى من قبلهم، ومع ذلك فقد تركوا آثاراً تُظهر تفوقاً في بعض فروع العلوم، ولا يستطيع العلم البشري إلى اليوم أن يصل إلى عشر معشارها، فهناك بعض الألغاز الموجودة حتى الآن لم يستطع العلم الحديث أن يفسرها، وهذا ما حدا بالكثيرين إلى أن يقولوا: إن قدماء المصريين كانوا يستعينون بالجن والسحر؛ وذلك بسبب ضخامة ما خلفوه من علوم تدل على تقدم وازدهار حضاري كما يسمونه ويزعمونه.
وقد نُشر في مجلة لا أذكر اسمها الآن في أمريكا مقالاً تحت عنوان: مدينة الأبراج، وهي منطقة في حضرموت، وفي نفس المكان الذي نعتقد نحن أنه كانت فيه مدينة عاد إرم ذات العماد، فيقولون: إنهم عن طريق التصوير والاستعانة بالأقمار الاصطناعية اكتشفوا مدينة كاملة مغمورة تحت الأرض، وفيها مبان مرتفعة جداً، وسموها مدينة الأبراج، وهم لا خبر عندهم بما يتعلق بالقرآن الذي وصفها بهذا الوصف: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:٦ - ٨].
فهذا مما يدل على أن الأمر بالعكس، فهناك أمم في القرون الماضية قد يكون عندها حضارات وتقدم هائل جداً، ثم تحصل فترات ركود وانحدار، وذلك في فترات تتعاقب على البشرية.
ويقول: فمن العسير أن نحكم بصفة قاطعة أن الخرافات القديمة بداية أديان؛ لأننا حتى في هذا العصر الذي نزعم فيه الترقي والتطور والتقدم والحضارة وغير ذلك لا زلنا نجد هذا موجوداً، بل ومن أرقى الأمم تحضراً كأمة اليابان مثلاً، فاليابانيون يعبدون الإمبراطور ويعبدون العائلة المالكة كما كان يفعل المصريون.
وهنالك في أوروبا والغرب من يعبد آلهة قدماء المصريين، ويأتون إلى هنا، ويحجون إلى الأهرامات وإلى الآثار.
وهناك ما تعجبون منه، ففي بعض الدول في شرق آسيا من يعبد الفئران! وقد رأى أحد الإخوة منظراً مثل هذا في شرق آسيا، ورأى أشياء مقززة، ولولا ذلك لحكيتها لكم، وذلك فيما يتعلق بتقديس الفئران، وهي أمور لا يتصورها أي إنسان عنده فطرة سليمة، أو ذوق مستقيم، فهم يقدسون الفئران، ويبنون قصوراً من الرخام الأبيض الجميل؛ كي يعبدوا فيها هذه الفئران.
وهناك من يعبد النيران وغير ذلك من الأوثان، وهذا يحصل الآن -كما يقولون- في القرن العشرين.
إذاً: فليس هناك قديم ولا جديد فيما يتعلق بالعقيدة، بل هي فترات ركود وانحدار وانحطاط بعد الترقي، فهذه في حد ذاتها ليست دليلاً على صحة المبدأ الذي عليه هؤلاء الناس.
ويقول بعض إخواننا: لو يرانا عباد الفئران ونحن نقتل الفئران هنا لأقاموا علينا حرباً مقدسة، كما فعل إخوانهم في المسجد البابري في الهند، وسبب المشكلة في ذلك المسجد أنّه بُني على مسقط رأس إلههم، أي: أنّ الإله ولد في هذا المكان، إله يولد تباً لهم! فهذا المكان مقدس عندهم.
فيمكن أن تطرأ على بعض هذه الحضارات بعض الطوارئ فتمزقهم الحروب، أو تفسدهم بعض المؤثرات الاجتماعية، فينحرفون عن التوحيد الذي كانوا عليه، أو يقل اعتناؤهم بأصول دينهم فيضيع هذا الدين، ويبقى تعلقهم بأشياء محرفة أو مغلوطة.
فإذاً: هذه البحوث التي يسمونها بحوثاً علمية في تاريخ الأديان، كلها مبنية على شفا جرف هار، وليس لها دليل علمي يدل عليها؛ لأنها لا تقوم إلا على التخمين والظن اللذين لا يغنيان من الحق شيئاً.
وأما الاستدلال بالآثار والنقوش والحفريات ودراسة الرمم، فهذا أمر يحتاج إلى كثير من التأمل، وكل من كان له قلب فإنه يدرك مدى اختلاف الناس في الأشياء المشاهدة في وقت واحد، فكيف بتفسير أشياء بيننا وبينها قرون سحيقة، وما ندري ما وراءها!! ومن عجيب أمر الباحثين في موضوع تاريخ الأديان أنهم يغفلون تماماً آثار الأنبياء، فتراهم يتجاهلون قضية الأنبياء وآثار الأنبياء، ويتجاهلون كتب الأنبياء، ويتعلقون بالواهي من الأدلة ورموز الأخبار والآثار، وتزداد الغرابة وتعظم المصيبة حينما يكون الباحث مسلماً، ويتابع غير المسلمين في مثل هذه الأمور التي صرحت بها الرسالات السماوية، متجاهلاً للحقائق التي جلاها الإسلام بما لا يدع مجالاً للشك، سواء كان ذلك فيما يتعلق بقضية خلق الإنسان، أو تكوينه أو نظام حياته وتدينه، أو الحكمة من خلقه ووجوده، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:٣٦]، ويقول: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف:٥١].