للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[قاعدة مهمة قبل الكلام عن الغزالي وكتابه]

لكن قبل أن نشرع في دراسة فكر الإمام أبي حامد الغزالي كعلم من أعلام التصوف ومحطة رئيسية من محطاته، هناك قاعدة ينبغي أن تكون محل اتفاق قبل الشروع في المقصود، هذه القاعدة: هي أن تخطئة غير المعصوم أهون من نسبة الباطل إلى المعصوم، بمعنى: تخطئة الشخص غير المعصوم أهون من أن ننسب الباطل والخطأ إلى المعصوم وهو الشريعة المطهرة، فالمعصوم هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذان هما بحق حجة الإسلام على كل أحد، والكتاب والسنة هما المرشد من الضلال، وهما القسطاس المستقيم، وهما ميزان العمل، وهما منهاج العاملين والعارفين.

إن التساهل في هذه القاعدة تحت أي ضغط أو إرهاب فكري، يعيد فتح باب التحريف والتبديل في دين الله على مصراعيه، والتحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات بالخطأ.

إن الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا معشر المسلمين في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نحبها ونجلها تخطئ، كما أننا عملياً لا نتعامل مع هذه الشخصيات الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء أو رفض كل شيء.

لقد تحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر، يتحدى القواعد الإسلامية الراسخة التي يحفظها كل الناس، مثل قول مالك بن أنس: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وهذا الكلام في الأصل مروي عن الحبر البحر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخذه عن ابن عباس مجاهد والحكم بن عتيبة، وعنهما أخذه الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم أخذه الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين.

إذاً: التنازل عن القاعدة التي ذكرنا آنفاً يعد تنكراً لهذه الأصول التي أسسها السلف الصالح، مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور.

ومثل قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.

وقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.

وقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أبطلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي.

وقول الشافعي أيضاً رحمه الله تعالى: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.

وقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري، وخذ من حيث أخذوا.

إن تذوق العلم وحده هو الذي يستطيع أن يعودنا الاحترام الواجب لأهل العلم، بحيث نصل معه إلى درجة نقدر فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه دون أن يصير خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم انتقاصاً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة مطلقة لهم، فهذا الأمر هو الذي ينزه الاحترام الواجب لأهل العلم عن أن يتحول إلى نوع من التقديس والغلو والتعصب.

فليس الهدف إذاً تجريح شخصيات أو تقليصها، وإنما الهدف اتخاذ موقف سديد بين الحق وبين الرجل، وأن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، ولكن الرجل غير المعصوم يمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبينهما درجات كثيرة، ولهذا يقال: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.