أما أم الصهباء معاذة بنت عبد الله العدوية زوجة صلة بن أشيم فهي تلميذة مباركة لأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، كانت -رحمها الله- إذا جاء النهار تقول: هذا يومي الذي أموت فيه.
فما تطعم حتى تمسي-أي: تصوم- فإذا جاء الليل تقول: هذه الليلة التي أموت فيها، فتصلي حتى تصبح، ومن أقوالها: عجبت لعين تنام وقد عرفت طول الرقاد في ظلمة الكهوف.
وإن كان مثل هذا التعبير فيه نظر؛ لأنّ المكوث في القبر لا يوصف بأنه رقاد أو نوم، كما يقول بعض الصوفية حين يتكلمون عن القبر ويقولون: وقت النوم في القبر طويل، فنحن لا ننام في الدنيا كثيراً.
لأن المكث في القبر ليس نوماً، وليست المعيشة في القبر تكون نوماً، وإنما هي عذاب أو نعيم، وما هي بنوم، كما قيل: فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حَيٍّ ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شَيٍّ كانت معاذة تصلي الليل الطويل، يكل الرجال وهي لا تكل، وكانت إذا جاء البرد لبست الثياب الرقاق؛ حتى يمنعها البرد من النوم، ولما بلغها نبأ استشهاد زوجها وابنها صبرت، وكان زوجها خرج ماضياً هو وابنه في سبيل الله تبارك وتعالى، فقال صلة لابنه: يا بني! إلى أمك -أي: ارجع إلى أمك كي ترعاها- فقال ابنه: يا أبت! أتريد الخير لنفسك وتأمرني بالرجعة؟! أنت -والله- كنت خيراً لأمي مني.
قال: أما إذ قلت هذا فتقدم، فتقدم فقاتل حتى أصيب، واجتمع عليه الكفار، فرماهم صلة عن جسده، وظل يرميهم حتى تفرقوا عنه، وأقبل يمشي حتى قام عليه، فدعا له، ثم قاتل حتى قتل رحمهما الله تعالى، فلما بلغها نبأ استشهاد ابنها وزوجها أتت النساء يواسينها في مصابها، فقالت لهن: إن كنتنّ جئتن لتهنئنني فمرحباً بكن، وإن كنتن جئتن لغير ذلك فارجعن، ولم تتوسد فراشاً بعد مقتل زوجها رحمها الله تعالى لكثرة قيامها وصلاتها.