[شرح حديث: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي)]
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم! صل على محمد وعلى محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى جابر بن عبدالله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه قال: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
هذا الحديث رواه محمد بن نصر في كتابه (تعظيم قدر الصلاة)، والبيهقي في الدلائل من حديث أنس، وفيه الحارث بن سعد الإيادي ضعفه الجمهور، وقال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح.
ورواه -أيضاً- الطبراني في الأوسط، وابن أبي عاصم في السنة، ورمز السيوطي له بالصحة، وحسنه الألباني.
فالحديث هو عن جابر بن عبدالله رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
أما الحلس فهو كساء يبسط ويفرش في أرض البيت، وهو قماش رقيق يوضع على ظهر البعير تحت قتبه، فشبه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم جبريل عليه السلام بالحلس برؤيته لاصقاً بما تلبس به من هيبة الله تعالى، وشدة فرقه منه، فالسر في هذا التشبيه هو أن الحلس يلصق بالأرض، أو يلصق بظهر البعير، وكذلك هذا الخوف وهذه الخشية من الله سبحانه وتعالى لصيقة بجبريل عليه السلام تماماً كلصوق الحلس بالأرض، أو بظهر البعير.
وتلك الخشية التي تلبس بها جبريل عليه السلام هي التي ترقيه في مدارج التبجيل والتعظيم، حتى دعي في التنزيل بأنه الرسول الكريم، وعلى قدر خوف العبد من ربه سبحانه وتعالى يكون قربه، فلأن جبريل عليه السلام شديد الخوف والخشية والهيبة لله سبحانه وتعالى فلذلك كان قريباً معظماً عند الله سبحانه وتعالى.
وفي الحديث أن الملائكة بين الخوف والرجاء كسائر المكلفين، مع أن الملائكة لم يخلقوا من نفس طبيعة البشر من حيث وجود الشر أو العصيان، وإنما هم لا وظيفة لهم سوى عبادة الله سبحانه وتعالى وتسبيحه وتحميده والسجود له، ومع ذلك فهم دائماً بين الخوف والرجاء يخافون الله سبحانه وتعالى، فأولى لهم أن يكونوا كالملائكة الذين لا يفعلون المعاصي وهم معصومون منها، فما بالك بمن ليله ونهاره في معصية الله سبحانه وتعالى، فلاشك في أنه لو فقه وعلم حق العلم لكان أشد خشية لله سبحانه وتعالى، فهذا حال جبريل -وهو أفضل الملائكة- يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى وجبريل كالحلس البالي من خشية الله تعالى).
فيفهم من ذلك أن الملائكة يكونون بين الخوف من الله سبحانه وتعالى ورجائه كسائر المكلفين.
قال الحكيم الترمذي: (وأوفر الخلق حظاً من معرفة الله سبحانه وتعالى أعلمهم به) فكلما زاد علم الإنسان بالله سبحانه وتعالى وعرف الله أكثر كلما ازداد خوفه من الله عز وجل، وأعظمهم عنده منزلة هو -أيضاً- أخوفهم من الله، وأرفعهم عنده درجة وأقربهم منه وسيلة.
فالأنبياء إنما فضلوا على الخلق بالمعرفة لا بالأعمال، وما ثبت من تفضيل الأنبياء عليهم السلام على سائر البشر ليس بكثرة العمل، بل بكثرة العلم والمعرفة بالله سبحانه وتعالى؛ لأنهم يعرفون الله عز وجل أكثر، فلو كان تفاضلهم بالأعمال لكان المعمرون من الأنبياء وقومهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته، أي لكانت تلك الأمم التي عاشت أكثر منا أفضل عند الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا لا يقع، ولكان أنبياؤهم كذلك الذين عمروا وطالت أعمارهم أفضل من نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن الأمر ليس بذلك، وإنما العبرة بمعرفة الله سبحانه وتعالى وليس بالأعمال، فنوح عليه السلام مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والرسول صلى الله عليه وسلم عاش ثلاثاً وستين سنة صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك هو أفضل من نوح، بل أفضل من سائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، فدل على أن العبرة في المفاضلة خشية الله، وعظم المعرفة به، وليس بمجرد الأعمال.
فهذا نموذج من الغيب الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة المباركة رحلة الإسراء.
وهذا الملك العظيم جبريل عليه السلام لو تخيلنا عظم خلقه لرأينا أمراً يفوق الوصف، فجبريل رآه النبي عليه السلام على صورته الحقيقية التي خلقه الله عليها وله ستمائة جناح قد سدَّ الأفق، هذا هو جبريل وعظيم خلقه، ومع ذلك فانظر إلى خوفه وخشيته لله سبحانه وتعالى، وهذا شأن الملائكة، فالملائكة قد وصفهم الله تبارك وتعالى بقوله: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:٢٦ - ٢٩]؛ فالملائكة يتصفون بكل صفات العبودية لله سبحانه وتعالى، وهم قائمون بالخدمة بين يديه، ومنقادون لأوامره، وعلم الله سبحانه وتعالى بهم محيط، فلا يستطيعون أن يتجاوزوا هذه الأوامر، بل هم خائفون وجلون منه سبحانه، ومن تمام عبوديتهم له سبحانه وتعالى أنهم لا يقترحون شيئاً على الله عز وجل، كما قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:٢٧].
وقد جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل عليه السلام: (ألا تزورنا أكثر مما تزورنا) وذلك لأن النبي عليه السلام كان شديد المحبة لجبريل عليه السلام، فكان يشتاق إلى نزوله عليه بالوحي وإلى ملاقاته، فلما قال له ذلك نزلت هذه الآية الكريمة في سورة مريم: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:٦٤].
وفي القرآن الكريم نماذج من اجتهاد الملائكة في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأعظم ذكر يلزمه الملائكة هو التسبيح وتنزيه الله سبحانه وتعالى عما لا يليق، فهؤلاء حملة العرش قال الله عز وجل عنهم: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [غافر:٧] وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الشورى:٥] وهذا التسبيح دائم لا ينقطع أبداً في ليل ولا نهار، يقول عز وجل: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء:٢٠] لا يصيبهم السأم ولا الملل، ولذلك حق لهم أن يفتخروا بأنهم هم المسبحون لله سبحانه وتعالى على الحقيقة؛ لأنهم ملازمون للتسبيح لا ينقطعون عنه أبداً، فحق لهم أن يفتخروا بذلك، كما حكى الله عز وجل عنهم في قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ * وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات:١٦٥ - ١٦٦]؛ أي: نحن المسبحون لله على الحقيقة.
لأنهم لا يغفلون أبداً عن تسبيح الله سبحانه وتعالى، ولا شك في أننا حين نتصور هذا الأمر لابد لنا من أن نحتقر الأعمال التي نعملها، فليست شيئاً يذكر في جانب عبادة الملائكة، فنحن لن ننجو إلا برحمة الله لا بالأعمال، ولكن مهما كانت فهل ستصل إلى عبادة الملائكة؟! وما كثرة تسبيحهم إلا لأن التسبيح أفضل الذكر، كما جاء في صحيح مسلم عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الذكر أفضل؟ قال: ما اصطفى الله لملائكته أو لعباده.
سبحان الله وبحمده).
أما صلاتهم: فالملائكة يصطفون عند الله سبحانه وتعالى، كما في الحديث: (ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها، فقيل: وكيف تصف الملائكة عند ربها؟! فقال عليه الصلاة والسلام: يتمون الصف الأول فالأول، ويتراصون في الصف) رواه البخاري.
وقال سبحانه وتعالى في القرآن: {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات:١٦٥] فهم يقومون ويركعون ويسجدون، كما في حديث حكيم بن حزام رضي الله تعالى عنه قال: (بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه إذ قال لهم: أتسمعون ما أسمع؟ قالوا: ما نسمع من شيء.
قال: إني لأسمع أطيط السماء) والأطيط هو صوت الأحمال على ظهر البعير، فعندما يكون مثقلاً بالأحمال على ظهره فإنه يئط من شدة الثقل، فهذا إشارة إلى شدة ازدحام الملائكة عليهم السلام في السماوات، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأسمع أطيط السماء، وحق لها أن تئط، وما فيها موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم).
والملائكة لهم كعبة في السماء يحجون إليها، وهذه الكعبة هي التي أسماها الله سبحانه وتعالى: البيت المعمور، وأقسم به في سورة الطور لما تأتيه الملائكة، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء بعدما جاوز السماء السابعة.
(ثم رفع بي إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، يعني: أن الذين يدخلون كل يوم