للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[اهتمام الناس بقشور المباهاة والمفاخرة ونقدهم لمسائل الدين]

إن التواضع في الحقيقة له صور كثيرة جداً في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كان يأتي الصبي الصغير أو الجارية الصغيرة فيأخذ بيد النبي صلى الله عليه وسلم فيمضي معه حيث أخذه، وقالت له عائشة رضي الله عنها وهو يأكل يوماً: (هلا اتكأت -يعني: نأتي لك بمتكأ تجلس عليه- فحنا رأسه عليه الصلاة والسلام وقال: بل آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد)، صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذه هي قيم الإسلام، وهذه قشور القوم، وهذا هو اللب والجوهر والروح، فما بال القوم قد ابتغوا العزة في رباط العنق (الكرفتة)، ويكون لونها مناسباً مع لون القميص ومع الأزرار والبدلة، وكذلك مع السيارة أحياناً، فجعلوا العزة في مثل هذه المظاهر، لا، هذه مقاييس أهل الدنيا، هذه ليست لنا، هذه الزينة وهذه القيم للقوم الذين جنتهم عجلت لهم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر).

فمهما سابقناهم في هذا فلن ندركهم، فهم يسبقوننا في الرياضة، ويسبقوننا في الزينة وفي الرياش والفخفخة لن ندركهم ولن نلحقهم؛ لأن هذه ليست لنا، هذه لغيرنا، وزينتنا هي التواضع والبذاذة كما قال عليه الصلاة والسلام: (البذاذة من الإيمان).

زينتنا قيام الليل، وذكر الله عز وجل، وصلاة الجماعة، هذه هي الزينة التي تليق بعباد الرحمن، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:٦٣] فما بال القوم ابتغوا العزة في هذه المظاهر الكاذبة والقشور الفارغة، في ربطة العنق وكي الملابس، وأهدروا أموالهم في مظاهر قشرية جوفاء، وإذا ندبت أحدهم إلى الاعتدال وقلت له: ترفق بنفسك مهلاً، انطلق كالصاروخ يسرد لك ما أسعفه من الحجج والمعاذير، في حين أنه بمجرد رؤيته لمن يتمسك بالسنة وبهدي النبي صلى الله عليه وسلم مثل: ارتداء القميص حيث كان أحب الثياب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه الأستر وفيه تواضع، والعمامة أو غير ذلك من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا به يشمئز ويقول: هذه شكليات وهذه قشور لا ينبغي الاشتغال بها، نقول: لماذا شغلت أنت نفسك بهذه القشور؟ أنا ما كلمتك وما دعوتك بأن تفعل مثلي، ومن حقي أصلاً أن أدعوك.

فمن الذي استفزته هذه القشور؟ وهناك مفارقات عجيبة في الحقيقة نلمحها في مجتمعاتنا تعكس الخلل في هذه القيم وفي هذه الأمور، فمثلاً تلمح بعضهم إذا رأى إماماً للصلاة متمسكاً بالسنة يلاحظ اهتمامه الشديد بتسوية صفوف الصلاة وبرصها أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، يقول: هذه شكليات هذه قشور، بل إن منهم من سخر من هذه السنة لما سئل في بعض الأحاديث الصحافية ما هي آخر نكتة، أو (كاريكاتير) أعجبك؟ فقال: رأيت (كاريكاتير) جماعة أحدهم لابس قفاز الملاكمة، فقالوا له: ماذا تفعل؟ هل أنت تستعد للملاكمة؟ قال: لا أنا سأسوي الصف.

من يفعل هذا؟ هل هناك من يضرب الناس حتى يسووا الصفوف؟ إن هذا تنفير من السنن واستهزاء بأشياء قد تضر إيمانهم وإسلامهم.

فالشاهد قولهم: هذه شكليات وهذه قشور، بينما تراهم في أنشطتهم إذا عملوا معسكرات كشافة أو حتى معسكرات رياضية أو حفلات واستقبالات سواء كانوا من الكشافة أو من الصحفيين أو غيرهم، فانظر إلى اهتمامهم بتسوية الصفوف مثلاً في الاستعراضات العسكرية، أو استقبال حرس الشرف، أو في المدارس والمعسكرات وطابور الصباح، وكل هذا من أجل المحافظة على مظهر الاستعراض! أليست هذه شكليات أو قشور؟! فيقول لك: هذا من لوازم الانضباط والنظام وكذا وكذا إلى آخر هذه المعاذير، هذا من المفارقات العجيبة في الحقيقة، لماذا تقولون في الصلاة: شكليات وقشور؟ ولماذا في حفلاتكم ومراسيمكم تهتمون بهذه المظاهر؟ إذا جاء الفقير ذو الدين والخلق الحسن إلى أحدهم يخطب ابنته تمسك بالمظاهر وتشبث بالقشر، وأهمل الجوهر واعتبر المظهر، وعقد الأمور، وغالى في المهور، وإذا كان رجلاً طيباً وتورع عن المغالاة في المهر وقنع باليسير لابد أن يظهر أمام الناس أن المهر قدره كذا وكذا، لماذا؟ من أجل الاشتغال بهذه القشور.

أما قشور المآتم فحدث ولا حرج عما يقع بسبب التباهي في المآتم، بل إنهم يتباهون بحسن أكفان الموتى، في أحد المساجد هنا قريباً في المنطقة تجد إذا دخلت الباب كفناً درجة أولى وكفناً عادياً وهكذا، وإلى عهد قريب إذا دخلت بعض المدافن تجد رخاماً مكتوباً عليه: مدفن درجة أولى ممتازة بكذا جنيه، ومدفن درجة ثانية بكذا جنيه، ومدفن عادي بكذا جنيه.

هذا التباهي في الجنائز، وهذا غير التفاخر بالبنيان فوق القبور، مع ما في ذلك من المخالفة الصريحة لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن البناء فوقها.

ومن القشور المدمرة كما يقولون: موت وخراب بيوت، أو كما يقول الشاعر الفصيح: ثلاثة تشقى بهن الدار العرس والمأتم ثم الجار فتجد في الجنائز إذا كان الميت له أقارب في مدن أخرى تتحول دار أهل الموت إلى فندق ومطعم يستقبل أفواجاً من المعزين تقيم الأيام والليالي، ويستنفر أهل الميت لخدمتهم وتأمين حاجياتهم، وحدث ولا حرج عن تكاليف السرادقات والتباهي بالمشاهير من المقرئين، وربما استدانوا لأجل هذه المظهرية، وربما دفعوا تكاليف هذه المظاهر الكاذبة الخادعة والقشريات من أموال قد صارت ملكاً لليتامى؛ لأن الميت انفصل عن ماله، صار ملك اليتامى القاصرين المساكين، فإذا بهم يأخذون من أموال اليتامى ولا يتحرجون، رغم أن هذا من أكل أموال اليتامى ظلماً وسحتاً في هذه المظاهر الكاذبة، فمن الذي يهتم بالقشور؟ ومن الذي تستعبده المظاهر وتلك العادات الخبيثة؟ وهذا أيضاً مخالف للسنة؛ لأن جيران أهل الميت الأصل أنهم هم الذين يصنعون الطعام لأهل الميت؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال عندما استشهد جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فإنه قد أتاهم ما يشغلهم).

أيضاً في سبيل هذا التصور وفي سبيل المظهرية الفارغة يضحي بعضهم بالنفس والنفيس، وربما أشغل ذمته بالدين أركبه الهم والذلة في النهار وأرقه بالليل.

إذا فرح في الأفراح بذَّر في نفقات الإضاءة وأسرف في الولائم، مجاراة للتقاليد ومجاراة للأغنياء والوجهاء، يقول عليه الصلاة والسلام: (المتباريان لا يجابان ولا يؤكل طعامهما) رواه البيهقي وصححه الألباني.

قوله: (المتباريان) أي: لو أن شخصاً صنع وليمة وقام الثاني وصنع وليمة أفخم من وليمته، فتباريا كأنها مسابقة، فهذان يعاقبان شرعاً بأنهما لا يجابان ولا يؤكل من طعامهما، ويقول عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام الوليمة، يمنعها من يأتيها، ويدعى إليها من يأباها، ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله) صلى الله عليه وسلم، رواه مسلم.

المقصود يمنعها المساكين من الدخول، فليس من الممكن أن تجد فقيراً في الأفراح، فلو ذهبت إلى (البوفيه) مثلاً فرأيت الفطائر والحلويات وهذه الأشياء فهل تجد رجلاً فقيراً مسكيناً رث الثياب يجلس مع هؤلاء الوجهاء الذين يتباهون بالملابس وبالثياب والمظاهر الفارغة؟ هل يمكن أن يتركوا واحداً فقيراً أو مسكيناً يأكل معهم؟ لا يمكن أن تجد هذا إلا أن يشاء الله، فهذه مظهرية فارغة.

ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: (شر الطعام طعام والوليمة).

وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان يحضر أحدكم وعند كل شيء من شأنه، حتى يحضره عند طعامه، فإذا سقطت من أحدكم اللقمة فليمط ما كان بها من أذى ثم ليأكلها، ولا يدعها للشيطان) رواه مسلم، فإذا كانت اللقمة لا تتركها حتى لا تدعها للشيطان، فكيف بمن يطعم الشيطان ما لذ وطاب من أصناف الطعام والشراب؟ كنت في إحدى البلاد العربية في شيء مثل المخيم، فأتوا بخروف كبير جداً مشوياً بطريقتهم، وأتوا به على صواني كبيرة جداً كما هي الطريقة المعروفة عند بعضهم، فالناس أكلوا أكلاً يسيراً جداً، فبقي هذا الشيء يكاد يكون كما هو، والأكل الموجود من الفواكه والأرز بما عليه من الزبيب وغيره من الأشياء هذه كلها، وإذا أنا بهم يدخلون بإناء كبير جداً، جفان كالجواب ربما يصعد إليها بالسلالم، فالمهم أتوا ببقية الطعام فجعلوا يضعون اللحم على الخبز على الفواكه، فاستغربت من المنظر فقلت: أين تذهبون بها؟ فكأن الأخ أحرج فقال لي: نتصدق بها على الطيور، فهنا نقول: كيف تهدر نعم الله سبحانه وتعالى بهذا الشكل؟ هناك من المسلمين من يموت بالتخمة ومن الشبع، ومن المسلمين من يموت بسبب الجوع، فهل هذا هو شكر النعم التي أنعم الله تبارك وتعالى بها علينا؟ كل هذه مظهرية كاذبة لا تليق بالمسلم، فإذا كان الشيطان لا تترك له لقمة، فكيف تترك له أصناف الطعام والفواكه والشراب وغير ذلك حتى يهنأ بها ويتقوى عليك ويهزمك؟! وكيف بمن يرمي في القمامة أكواماً من الطعام تفقدها أفواه محرومة، وبطون خاوية، ويلقي في المزبلة بقايا الولائم في حين يغلي قلبه حسرة على ما ركبه من ذل الدين وهمه في سبيل قشور فارغة وفي سبيل المظاهر الكاذبة؟! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.