ومن ذلك الاختلاط في الوظائف والأندية، والمواصلات، والأسواق، والمستشفيات، والزيارات بين الجيران في الأعراس والحفلات، والخلوة في أي مكان ولو بصفة مؤقتة كالمصاعد، فلا يركب أبداً إنسان مع امرأة بمفردها في المصعد، فالتيار الكهربائي قد ينقطع، حتى لو لم ينقطع فإن الخلوة في حد ذاتها حرام ولو لم يرد في ذهن أي منهما أي فكرة محرمة، فإذا خلا بها فقد ارتكبا وزراً، وكذلك المكاتب، والعيادات، وغير ذلك من الأماكن التي ينبغي أن لا يخلو فيها الرجل بالمرأة خلوة بحيث يأمنا من دخول الناس عليهما، ولا شك أنه ينبغي أن نراجع أنفسنا، ونجتهد في اتقاء الخلوة والاختلاط والتبرج ما استطعنا، فإن الستر والصيانة هما أعظم عون على العفاف والحصانة، فاحترام القيود التي شرعها الإسلام في علاقة الجنسين هو تمام الأمن من الفتنة والعار والفضيحة والخزي، ويجب على المسلم أن يحفظ ويحرس أولاده وأهله من أجهزة الفساد السمعية أو البصرية التي تغزونا الآن في عقر دارنا، أليس الدور الذي يؤديه التلفزيون والفيديو والدش وهذه الأشياء يعطي أولادنا دروساً خصوصية بلا تكلفة؟! لا يقفون في طابور ولا يذهبون إلى سينما، وإنما هي دروس تأتي من أفسق فساق الأرض من كل أنواع الشياطين في شرق الأرض وغربها، يأتون إلى بيوتنا ويغزوننا، ويعلمون أولادنا هذه الفواحش وهذه المحرمات، فإذاً الفرق أن هذا جهاز جامد وتلك صورة حية، فإذا قالوا: حسبك من شر سماعه، فكيف برؤيته؟ إن على الرجال أن يصونوا بناتهم وأزواجهم من الاختلاط بالأجانب والتبرج أمامهم، يقول الشاعر: إن الرجال الناظرين إلى النساء مثل السباع تطوف باللحمان إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أكلت بلا عوض ولا أثمان وقال آخر: تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي صولة المستأسد الحامي فالأعراض إذا لم تصن بهذه الحصون وتلك القلاع، ولم تحصن بالأسوار والسدود والأسلاك الشائكة التي ذكرناها فستسقط -لا محالة- أمام هذه الهجمة الشرسة، ويقع المحذور ولا ينفع حينئذ بكاء ولا ندم، والتبعة كل التبعة واللوم أولاً وأخيراً على ولي البنت الذي ألقى لها الحبل على غاربه، وأرخى لها العنان، فيداه أوكتا وفوه نفخ، يقول الشاعر: نعب الغراب بما كرهت ولا إزالة للقدر تبكي وأنت قتلتها فاصبر وإلا فانتحر ويقول الآخر: أتبكي على لبنى وأنت قتلتها لقد ذهبت لبنى فما أنت صانع فجعبة الباحثين والدارسين لظاهرة الاختلاط حافلة بالمآسي المخزية، والفضائح المشينة التي هي صفعة قوية في وجه كل من يجادل بعدما تبين، والإحصائيات الواقعية في كل البلاد التي شاع فيها الاختلاط ناطقة -بل صارخة- بخطر الاختلاط على الدين والدنيا، لخصها العلامة أحمد وثيق باشا العثماني كان رجلاً سريع الخاطر حاضر الجواب، وأحياناً الإنسان المغمور الذي بخر الهواء عقله يحتاج لصفعة قوية توقظه، فهذا الذي فعله أحمد وثيق باشا حينما سأله بعض معاشريه من رجال السياسة في أوربا في مجلس بإحدى تلك العواصم الأوربية، قال له رجل من الساسة الغربيين: لماذا تبقى نساء الشرق محتجبات في بيوتهن مدى حياتهن من غير أن يخالطن الرجال ويغشينهم؟ فأجابه في الحال -واضطر إلى أن يستعمل هذا التعبير القاسي الشديد كي يخرص هذا الإنسان المتبلد الحس- فقال له: لأنهن لا يرغبن أن يلدن من غير أزواجهن.
وكان هذا الجواب كصب ماء بارد على رأس هذا السائل، فسكت على مضض كأنه ألقم الحجر، ولما وقعت فتنة الاختلاط التي سنها أول من سنها طه حسين في الجامعة المصرية وقعت حوادث يندى لها الجبين، وبما أنه هو الذي تآمر لفتح باب الاختلاط في الجامعة سئل عن ذلك، فرد طه حسين على الحوادث التي وقعت فقال: لا بد من ضحايا.
ولكنه لا يبين بماذا تكون التضحية، وفي سبيل ماذا لا بد من ضحايا، فالمعروف أن الإنسان يضحي بشيء رخيص في سبيل شيء أغلى وأثمن، فيضحي بشيء تافه أو قليل، أو يمكن التغاضي عنه في سبيل ما هو أعظم وأثمن، فما هو الشيء الذي هو أسمى وأغلى من أعراض المسلمات بحيث نضحي بأعراضنا في سبيل مصلحة أكبر!! والله المستعان.
وعلى أي الأحوال نستطيع بكل قوة أن نجزم بحقيقة لا مراء فيها ولا جدل ولا شك، وهي أنك إذا وقفت على جريمة فيها نهش العرض، وذبح العفاف، وإهدار الشرف، ثم فتشت عن الخيوط الأولى التي أنتجت هذه الجريمة وسهلت سبيلها فإنك ستجد حتماً أن هناك ثغرة حصلت في الأسلاك الشائكة التي وضعتها الشريعة الإسلامية بين الرجال والنساء، ومن خلال هذه الثغرة دخل الشيطان، وصدق الله العظيم {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً}[النساء:٢٧ - ٢٨].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك -اللهم- ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.