[حقيقة اتصاف الأمة المحمدية بالوسطية]
إن وسطية الإسلام هي -في الحقيقة- من أبرز خصائص هذه الأمة المحمدية، فقد قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣] فقوله: (أُمَّةً وَسَطًا) يعني: عدولاً.
لذلك نجد الإسلام في كل قضية من القضايا العلمية أو العملية يقدم المنهج الوسط والعدل والمعتدل في كل شئون الحياة، بل لا يكتفي الإسلام بهذا، وإنما مع أخذه بالوسطية يحذر تحذيراً شديداً جداً من الانحراف إلى أحد الاتجاهين: الغلو أو التقصير، أو الإفراط أو التفريط.
ونحن نكرر هذا الدعاء في اليوم والليلة على الأقل سبع عشرة مرة، وهو قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:٦] ولم يكتف سبحانه وتعالى بذلك، بل وصفه بقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٧] إذاً: الصراط المستقيم لا يمكن أن يكون مستقيماً إلا إذا خالف سلوك هذين الفريقين: أولهم: المغضوب عليهم وهم اليهود لعنهم الله.
ثانيهم: الضالون وهم النصارى؛ لأن اليهود عصوا الله عن علم فاستحقوا الغضب، والنصارى عبدوا الله عن جهل فاستحقوا الضلال.
فهذه الوسطية التي تميز الإسلام عما سواه من الأديان هي العدل، فإن معنى قوله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣] أي: عدولاً خياراً.
والدليل على أن سياق الآية يفيد هذا المعنى أن الله سبحانه وتعالى جعل هذه الوسطية علة لتكليف هذه الأمة بالشهادة على الأمم الأخرى؛ لأن الشاهد يشترط فيه العدالة، ولا تقوم الشهادة ولا تقبل إلا من عدل، وكذلك قوله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:١١٠]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فلذلك قلنا: إن (وسطاً) تشمل -أيضاً- معنى الخيرية في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣] أي: عدولاً خياراً.
فبين وصف الأمة بالخيرية ووصفها بالوسطية تلازم؛ إذ إن الوسط في لغة العرب الخيار، كما سيأتي إن شاء الله، أما السنة فجاء الخبر فيها صريحاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير الوسطية بالعدالة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجاء بنوح يوم القيامة فيقال له: هل بلغت؟ فيقول: نعم يا رب.
فتسأل أمته.
هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير.
فيقول: من شهودك -يا نوح- على أنك أبلغتهم؟ فيقول نوح: محمد وأمته عليه الصلاة والسلام) لأن هذه الأمة تؤمن بجميع الأنبياء، وتعظم جميع الأنبياء، وتنزه جميع الأنبياء عما لا يليق بهم، إلى غير ذلك من اعتقادها النقي في حق الأنبياء؛ لأن من أركان إيمان أمة محمد أنهم يؤمنون بنوح وغيره من الأنبياء عليهم السلام عن طريق القرآن والوحي الذي أخبر أن نوحاً أتى قومه وبلغهم وحصل معهم كذا وكذا وكذا، فلذلك هذه الأمة تشهد عن علم يقيني، وهو الوحي الذي أوحاه الله إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، فلذلك لما ينكر قوم نوح ويقولون: ما جاءنا من نذير.
يظنون أن هذا الإنكار ينفعهم في هذا الموقف، قال صلى الله عليه وسلم: (فيقول: من شهودك؟ فيقول نوح -عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام-: محمد وأمته.
فيجاء بكم فتشهدون.
ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:١٤٣] قال: عدلاً {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:١٤٣]) هذا الحديث رواه البخاري وأحمد رحمهما الله تعالى.