[الحكمة من الاستئذان]
قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: اعلموا -وفقكم الله- أن الله سبحانه وتعالى خصص الناس بالمنازل، وسترهم فيها عن الأبصار، وملكهم الاستمتاع بها على الانفراد، وحجر على الخلق أن يطلعوا على ما فيها من خارج، أو يلجوها بغير إذن أربابها؛ لئلا يهتكوا أستارهم، ويبلوا أخبارهم، وتحقيق ذلك ما روي في الصحاح عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (اطلع رجل في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، ومع النبي صلى الله عليه وسلم مدرى يحك بها رأسه -والمدرى: المشط- فقال عليه الصلاة والسلام: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل البصر، فمن دخل بعينه فقد دخل) أي: وإن كان بدنه من الخارج، فهذا يشير إلى هذا المعنى المهم، فهذه هي الحكمة من الاستئذان.
وكما أن الإنسان يتخذ البيت لستر نفسه وعورات أهله، فإنه يتخذه أيضاً لستر أمواله ومتاعه، وكما ذكرنا فإنّ الإسلام يحترم الملكية الفردية، ويحترم الملكية الخاصة، وخصوصيات الإنسان، فكما يكره الإنسان اطلاع الغير على نفسه، أو على عورات أهله وحرمه، فكذلك يكره اطلاع الغير على أمواله ومتاعه، يقول الزمخشري في الكشاف: قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً} [النور:٢٨] يعني: من الآذنين {فَلا تَدْخُلُوهَا} [النور:٢٨] واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، وانظر إلى هذا التعبير القرآني فإنه في غاية الدقة، فالله سبحانه لم يقل: (فإن لم يكن فيها أحد فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم) وإنما قال: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً)، فإذا طرقت باب أحد من الناس ولم يرد عليك، وتريد أن تكتب ورقة، فهل تتحرج من أن تكتب: حضرت ولم أجد أحداً؟
الجواب
لا حرج في ذلك.
وهناك فرق بين العبارتين السابقتين، أعني: قوله تعالى: (فإن لم تجدوا فيها أحداً)، وبين قولنا: (فإن لم يكن فيها أحد)، وأذكر هنا قاعدة معروفه عند المناطقة، وهي قاعدة صحيحة: أن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، بمعنى: لو أنّ طالب علم مثلاً يكتب بحثاً حول الربا، فأتى بكتاب (الأم) للشافعي رحمه الله مثلاً، وبحث عن مسألة معينه في باب الربا فما وجدها، فهل يجوز له أن يقول: فتشت في كتاب الأم للشافعي ولم أجد فيه هذه المسألة في موضوع الربا، أم يقول: لم يتعرض لهذه المسألة في كتابه هذا؟
الجواب
يقول: فتشت في باب الربا فلم أجد فيه هذه المسألة، ولا يقول: لا توجد هذه المسألة في هذا الكتاب، أو لم يتعرض لها، لماذا؟ لأنه لا يجوز القطع بعدم الوجود إلا على أساس استقراء تام، أو دليل قطعي.
ومثله قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [يونس:١٨] أي: لقد اتخذتم شركاء آخرين مع الله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى لا يعلم له شريكاً في السموات ولا في الأرض، فما هو الشيء الذي لا يعلمه الله؟ هو الشيء المعدوم الذي ليس بموجود، فما دام أنّ الله تعالى لا يعلمه فهو غير موجود، لكن الله سبحانه وتعالى يعلم كل ما في السموات وما في الأرض، ولا يغيب عنه شيء سبحانه وتعالى.
إذاً: فهذا الطالب الذي يقول: فتشت عن هذه المسألة في كتاب الربا، أو في باب الربا من كتاب الأم فلم أجدها، قد أصاب، وأما من يطلق ويقول: ليس في كتاب الأم تعرض لهذه المسألة، فلم يصب، إلاّ أن يكون استقرأ الكتاب كاملاً؛ فلعلّ الشافعي تعرض لها في باب آخر، وهذا يحصل كثيراً.
فالشاهد: أنّه في حالة عدم الوجدان يقول: أنا فتشت فلم أجد في حدود علمي، ولذلك تجد دقة المحدثين كالإمام الحافظ العراقي مثلاً في تخريج الحديث يقول: لا أعرفه.
فانظر إلى الدقة والأدب، بينما يأتي بعض أفراخ هذا الزمان من طلبة العلم المتطفلين على علم الحديث فيجزم بالقطع أن هذا ليس موجوداً على الإطلاق، لكن انظر للعالم المتقن يقول: لا أعرفه.
أي: أنا لا أعرفه، لكن يمكن أن غيره من العلماء يعرفه، لأنه لا يوجد أحد يحيط علماً بكل شيء، فيقول: لا أعرفه، وينسب التقصير إلى نفسه، وينفي المعرفة عن علمه، فلا بدّ أن يكون الإنسان دقيقاً، فعدم الوجدان يعني: أني بذلت جهدي ووسعي فلم أجد المراد، فتتحدث عن محصلتك وعن نفسك، لكن عدم الوجدان لا يستلزم عدم الوجود، فقد يكون موجوداً وأنت إما قصرت، وإما غاب عنك بأي صورة من الصور.
فالشاهد هنا: أن قول الله سبحانه وتعالى: (فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً) نفي للوجدان، لكن هل يلزم منه عدم الوجود؟ لا؛ لأنّه يمكن أن يكون هناك أناس في الداخل، ولسبب من الأسباب -والبيوت أسرار، والبيوت عورات- لا يريدون أن يفتحوا، وهذا حق من حقوقهم، فلا بد أن نفهم هذا الأمر؛ لأن القرآن نفسه أشار إلى هذا المعنى بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور:٢٨].
فالشاهد: أن من حكمة الاستئذان ستر عورات الأبدان، وعدم اطلاع الناس الآخرين عليها، وكذلك ستر الأموال، والمتاع، والأمور الخاصة التي لا يحبون اطلاع الناس عليها.
قال الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من الآذنين فلا تدخلوها، واصبروا حتى تجدوا من يأذن لكم، ويحتمل: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها.
يعني: لو أنّ واحداً كان متأكداً أن صاحب البيت -مثلاً- مسافر، ولا يوجد أحد في البيت، فهل يجوز له أن يقتحم البيت ويدخل؟ لا؛ لأنّ حِكَم الاستئذان ليست مقصورة على ستر عورات الأبدان فقط؛ بل يدخل فيها ستر عورات البيوت والممتلكات.
يقول الزمخشري: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة، فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها؛ وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة، ولا تسبق عينه إلى ما لا يحل النظر إليه فقط، وإنما شرع لئلا يوقف على الأحوال التي يطويها الناس في العادات عن غيرهم، ويتحفظون من اطلاع أحد عليها، ولأنه تصرف في ملك غيرك، فلا بد من أن يكون برضاه، وإلا أشبه القهر والتغلب.
وقول الزمخشري هنا: وذلك أن الاستئذان لم يشرع لئلا يطلع الدامر على عورة فقط، الدامر: مأخوذ من الدمور، والدمور: هو الدخول بغير إذن، فكون الإنسان يهجم ويدخل مكاناً ليس ملكاً له بدون إذن فإنه يسمى: دامر، واشتقاقه من الدمار، وهو الهلاك؛ لأنه هجوم بما يكره، فكأن صاحبه دامر أي: هالك؛ لعظم ما ارتكب من الجريمة، فقد اقتحم حرمة الآخرين بدون إذن، وقيل: المعنى: أن إساءة المطلع مثل إساءة الدامر، وروي: (من اطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد دمر)، وروي: (من سبق طرفه -أي: عينه- استئذانه فقد دمر عليهم)، أي: هجم ودخل بغير إذن.
ومن حكم الاستئذان: بقاء البيت سكناً لصاحبه يأوي إليه لراحته، ويستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فهذا معنى (السكن)، وهذه المعاني هي ظلال هذه العبارة العظيمة {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:٨٠]، فربما لا يريد الإنسان أن يقطع ما هو فيه من تلاوة قرآن، أو عبادة، أو صلاة، أو نحو ذلك، فهناك أعذار وأحوال كثيرة جداً قد تمنع الإنسان من مجرد الرد على المستأذن، أو الإذن له، فإما أنّه يريد أن يستريح، فإذا دُق الباب في كل وقت فإنه لا يستطيع أن ينام مثلاً، ولا يستطيع أن يأوي لراحته، أو يستقر فيه لينجز عملاً، أو يخلو بعبادة وذكر وتفكر، أو يطلب علماً، أو يرعى أهلاً وولداً، فلو ترك وقته نهباً لكل طارق فاتت عليه مصالحه، واضطربت أحواله، وتشتت أمره، مما قد يؤدي إلى تشويش فكره، فيسيء خلقه، ويضيق صدره.
إن المعنى الحقيقي للاستئذان ليس كما يفهمه البعض: هل أنت موجود في الداخل حتى يلزمك أن تأذن لي؟ وإنما هو: هل أنت موجود أم غير موجود؟ فإن كنت موجوداً فهل ظروفك تناسب أن تأذن لي أم لا؟ فيأتي الرد من صاحب البيت إما بالقبول، وإما بالاعتذار.