للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من أدلة حجية السنة ما ثبت في القرآن من أن السنة وحي كالقرآن]

ومن أدلة حجية السنة ما ورد في آيات قرآنية تثبت أن السنة وحي كالقرآن الكريم.

منها: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: ولم يقل وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ.

فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟ فتضمن نفي الأمرين: نفي الهوى عن مصدر النطق، ونفيه عن نفسه، فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال، {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤].

وقال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:١٥١]، وقال تعالى في دعاء إبراهيم وإسماعيل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:١٢٩].

وقال تعالى -وتأملوا كلمة: (وَأَنزَلَ) يعني: أنزل وحيه-: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء:١١٣]، وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة:٢٣١]، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:٢].

وقال تعالى: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} [الأحزاب:٣٤]، قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: سمعت من أرضى من أهل العلم بالقرآن يقول: الحكمة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن هذا قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة:١٦ - ١٨]، يعني: أنت تقرأ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٩] وكلمة: (بَيَانَهُ) هذه تعم كل أنواع البيان، أن يظهره بلسانه عليه الصلاة والسلام فيقرؤه كما أقرأه جبريل، وكذلك قوله: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٩] ضمان وتأمين لتبيين الأحكام المجملة في القرآن الكريم، فما في القرآن من أحكام الله سبحانه وتعالى تكفل ببيانها، وما يتعلق بها من الحلال والحرام، والتفصيل والإجمال، والقييد والإطلاق وما إلى ذلك.

فهذا بلا شك يدل على حجية السنة؛ لأن الذي بين هو الله سبحانه وتعالى: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة:١٩] فالله سبحانه وتعالى أوحى المبَين والمبِين كلاهما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقال صلى الله عليه وسلم: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:٥٠].

وقال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤]، وقال ابن القيم رحمه الله تعالى أيضاً في تفسير هذه الآية التي ذكرناها في سورة النجم قوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤] قال في موضع آخر قال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤] فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.

أي: ما نطقه {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤]، وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن، فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يوحى، وقد احتج الشافعي لذلك بقوله تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:١١٣]، فالعطف يقتضي المغايرة، فالحكمة لما عطفت على الكتاب كان كلاهما منزل من عند الله.

وقال الإمام ابن حزم رحمه الله تعالى: قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٤] وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:٥٠]، يعني: في كل تصرفاته هو اتباع للوحي، سواءً كان في ذلك لهذا الحكم الذي في القرآن أم في السنة.

فهو في كل سلوكه متبع للوحي، يعني: إذا صلى سنة الظهر كذا وكذا وفعل كذا قال في ركوعه وسجوده ولبس كذا وأكل كذا وقال كذا فهذا كله داخل في الوحي؛ لأن الله أمره أن يعلم الناس قال تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأنعام:٥٠]، يعني: ما يصدر عني أي شيء إلا بوحي، فهذا بلا شك دليل على أن السنة بأنواعها وحي من الله تبارك وتعالى.

وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩] لفظ (الذِّكْرَ) يشمل كل ما أنزله الله الذكر المتلو الذي هو القرآن، والذكر غير المتلو الذي هو السنة النبوية بأنواعها.

السنة وحي، لكنه وحي في المعاني، والألفاظ من عند النبي عليه الصلاة والسلام، أما القرآن فلفظه ومعناه من عند الله تبارك وتعالى، ولذلك لما اشتكى رجل للإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى انتشار الأحاديث الضعيفة والموضوعة، فرد عليه الإمام عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى فقال: تعيش لها الجهابذة، قال الله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:٩].

فاستدل بالآية على أن الذكر يشمل سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وممكن بعض الناس القاصرين يقول: كيف أتبع السنة، والسنة فيها أشياء كثيرة غير ثابتة مما ينسب إليها كالأحاديث الضعيفة والموضوعة وغيرها، وتختلط على الناس؟ ف

الجواب

أنها لا تختلط إلا على الجاهل الذي ليس هذا فهمه، وليس هذا تخصصه، لكن هل تختلط على العلماء الراسخين؟ لا تختلط عليهم، إنما تختلط على من هو قاصر في العلم.

وقال تبارك وتعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤]، فالذكر الذي هو يبين هو السنة، يقول ابن حزم: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل، لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة، في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكلما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع منه، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه، انتهى كلام ابن حزم.

وقال ابن القيم في تفسير الآيات التي قرن فيها الكتاب بالحكمة قال: والكتاب والقرآن والحكمة هي سنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، فهو في وجوب تطبيقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم.

وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن، والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فنجد من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة؛ لأن هذه الأدلة تدل على أن السنة وحي منزل كالقرآن.

يقول الله تبارك وتعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة:١٤٢ - ١٤٣] إلى آخر الآيات الكريمة أين الشاهد في هذه الآيات على أن السنة وحي؟ قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} [البقرة:١٤٣] فإذا تأملنا الآية، يقول تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣] القبلة التي كان عليها هي: استقبال بيت المقدس، هل توجد آية في القرآن الكريم تجعل بيت المقدس قبلة للمسلمين كما كان الأمر في السابق؟ جاء في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ الصلاة في استقبال بيت المقدس، فصلى مدة إلى بيت المقدس قبل نزول هذه الآيات، والله عز وجل هنا يقول في القرآن: {وَمَا جَعَلْنَا} [البقرة:١٤٣] يعني: ما كان تشريعنا القبلة إلى بيت المقدس من قبل إلا لحكمة وهي: {لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} [البقرة:١٤٣].

هل ورد أن بيت المقدس قبلة عن طريق القرآن أم أنه ورد عن طريق السنة؟ عن طريق السنة؛ لأننا لا نجد آية في القرآن تأمرنا باستقبال بيت المقدس، وفي لفظ هذه الآية يدل على أن هذا التشريع كان بفعل الله: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ} [البقرة:١٤٣] (مَا) هي الفاعل تعود إلى الله سبحانه وتعالى.

فهذه الآيات نزلت عن