الحمد لله الذي أمر خليله أن {أذن في الناس بالحج إلى البيت العتيق يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق}[الحج:٢٧]، والصلاة والسلام على من أنزل عليه:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا}[آل عمران:٩٧]، وعلى آله وصحبه وذرية خليله الذين أسكنهم بواد غير ذي زرع فطابوا مقيلاً، ولم تزل أفئدة الناس تهوي إليهم وتطير بأجنحة الشوق بكرة وأصيلاً.
أما بعد: فإن ذكريات رحلة الحج وزيارة المدينة النبوية المباركة من أشرف معالم العمر، وأعز وقائع الدهر؛ لأنها تنذر ذا القلب الساكن، فترحل به إلى أشرف البقاع وأطهر الأماكن، وتحلق به في آفاق السمو الروحي الذي يضع عن نفس المسلم آصار التراب وأثقال الرغام، وأغلال الحطام، فتسمو به بعيداً وراء حدود الزمان، لتسترجع ذكريات شروق شمس الإسلام في تلك الأرض المباركة، وتستعيد فصول جهاد الرعيل الأول وصبرهم الشديد الذي قهر اليأس، وإيمانهم العميق الذي أذل الكفر، وهجرتهم إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالقلوب والأبدان، حين أخرجوا من البلد الحرام إلى حرم المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث أسست الدولة الإسلامية الأولى على تقوى من الله ورضوان.
ومن قلب هذا الحرم الأطهر بدأت كتائب الإسلام زحفها لاستئصال الجاهلية، ومن قلب طيبة الطيبة بدأت الانطلاقة الأولى لمشعل الإسلام إلى خارج حدود الجزيرة تبدد الظلام، وتوقظ النيام، وتخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
ما أعظم الدروس التي يتلقاها المؤمنون في رحلتهم إلى مهبط الوحي! فيتعلمون منها كيف يربطون وجودهم بأهداب الرسالة التي ألفت في ربع قرن من الأميين الضائعين في صحراء المجهول خير أمة أخرجت للناس، ثم قذفت بهم إلى الدنيا كما تقذف الشمس بأشعتها حياة للأرض الميتة، وضياء للأعين الزائغة، ودفئاً للأكباد المقروحة، لتعود بجهادهم إلى الحياة بهجتها، وتشرق الأرض بعد ظلمة بنور ربها، وتحلق الذكريات بنفس المؤمن بعيداً وراء حدود المكان، تطوف بها في أرجاء تلك المشاعر المقدسة، والربوع الطاهرة، وكيف لا تنجذب الأفئدة إليها بخطاطيف الأشواق، وترحل نحوها قلوب أهل النواحي والآفاق، وفيها بيت الله الحرام الذي جعله مثابة يثوب إليه أهل الإسلام من أقطار الأرض على تعاقب الأعوام، فلا تشبع من زيارته القلوب، ولا ترتحل الأنفس إلا وهي بذكره طروب: لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا ومن الناس من بلغهم الله بيته الحرام فذاقوا وارتزقوا، وعرفوا واغترفوا، فمهما يترددون إليه لا يبغون عنه حولا، ولا يرون أنهم قضوا منه وطراً، إذا ذكروا بيت الله حنوا، وإذا تذكروا بعدهم عنه أنوا، ثم لا يزالون يجأرون إلى مولاهم بقلوب محترقة، ودموع مستبقة، أن يعيدهم إليه مرة، بعد مرة وكرة بعد كرة، ومنهم من فاته منه الدنو فهو يضمه بقلبه في كل حين وآن، ويولي إليه وجهه حيثما كان، قد حرم الوصول إلى البيت، وقلبه موصول برب البيت، عاقته المعاذير، ولم تساعده المقادير، فإذا أذن مؤذن الحج حي على الرحيل تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، فأقاموا مأتماً لها، وأراقوا دموع الأسف، ما أصنع هكذا جرى المقدور الجبر لغيري وأنا المكسور أسير ذنبٍ مقيد مأسور، هل يمكن أن يبدل المذكور؟! ثم أما بعد: فهذه الليلة المباركة هي ليلة عرفات التي يجتمع فيها عيد الجمعة وعيد الحج وموقف الحج الأعظم، نستثمر هذه الفرصة بتلاوة قصيدة عصماء رائعة البيان، خطها بقلمه السيال، وسحره الحلال، الإمام العلامة أبو إبراهيم محمد بن إسماعيل بن صلاح الصنعاني رحمه الله تعالى، حيث سطر فيها ذكريات رحلته إلى حج البيت الحرام، وزيارة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعبر تجربته الشعورية الصادقة أنشأ هذه الأبيات التي تبوح بالشجون، وتكشف الوجد المكنون، وتستنفر الدمع الهتون، وتستمد مدادها من شعلة الأشواق التي اتقدت في أحشائه، واضطرمت في ضلوعه وبين جوانحه، ثم فاضت منها المآقي كالسواقي: عجباً لنار ضرمت في أحشائه فتفيض من أجفانه ينبوعا لهب يكون إذا تلبس بالحشى قيظاً ويظهر في الجفون ربيعا فنشرع بإذن الله تعالى في قراءة هذه القصيدة، والمفترض أن نشرح غريب القصيدة، ولكن في الحقيقة لو توقفنا عند كل كلمة لنشرحها فستذهب حلاوة القصيدة، ومتابعة ما عليها، فنعتذر عن ذكر ألفاظ الغريب، وإن كان المعنى في الجملة واضح تستطيعون إن شاء الله تعالى متابعته، وليتسنى ذكر الحج وبركاته.
يقول رحمه الله تعالى بادئاً بما كان اعتاد عليه أهل الجاهلية من الوقوف على الأطلال في أول الكلام ثم يدخل في الموضوع: أيا عذبات البان من أيمن الحمى رعى الله عيشا في رباك قطعناه سرقناه من شرخ الشباب وروْقه فلما سرقنا الصفو منه سُرقناه وجاءت جيوش البين يقدمها القضا فبدد شملاً بالحجاز نظمناه حرام بذي الدنيا زوال اجتماعنا فكم صرمت للشمل حبلاً وصلناه فيا أين أيام تولت على الحمى وليل مع العشاق فيه سمرناه ونحن لجيران المحصب جيرة نوفي لهم حسن الوداد ونرعاه ونخلو بمن نهوى إذا رقد الورى ويبدوعلينا من نحب محياه أقرب ولا بعد وشمل مجمع وكأس وصال بيننا قد أدرناه فهاتيك أيام الحياة وغيرها ممات فياليت النوى ما شهدناه فيا ما أمر البين ما أقتل الهوى أما يا الهوى إن الهنا قد سلبناه فو الله لم يبق الفراق لذاذة فلو من سبيل للفراق فرقناه فكم من قتيل بيننا بسهامه فلو أننا نعطى الخطاق قتلناه فأحبابنا بالشوق بالحب بالجوى لحرمة عقد عندنا ما حللناه لحق هوانا فيكم وودادنا لميثاق عهد صادق ما نقضناه أعيدوا لنا أعيادنا بربوعكم ووقت سرور في حماكم قضيناه فما العيش إلا ما قضينا على الحمى فذاك الذي من عمرنا قد عددناه فياليت عنا أغمض البين طرفه ويا ليت وقتاً للفراق فقدناه وترجع أيام المحصب للمنى ويبدو ثراه للعيون وحصباه وتسرح فيه العيس بين ثمامة وتستنشق الأرواح نشر خزاماه ونشكو إلى أحبابنا طول شوقنا إليهم وماذا بالفراق لقيناه فلا كانت الدنيا إذا لم يعاينوا هم القصد في أولى المشوق وأخراه عليكم سلام الله يا ساكني الحمى بكم طاب رياه بكم طاب سكناه وربكم لولاكم ما نوده ولا القلب من شوق إليه أذبناه أسكان وادي المنحنى زاد وجدنا بمغنى حماكم ذاك مغنى شغفناه نحنّ إلى تلك الربوع تشوقاً ففيها لنا عهد وعقد عقدناه ورب برانا ما سلونا ربوعكم وما كان من ربع سواه سلوناه فيا هل إلى ربع الأعاريب عودة فذاك وحق الله ربع حببناه قضينا مع الأحباب فيه مآربا إلى الحشر لا تنسى سقى الله مرعاه فشدّوا مطايانا إلى الربع ثانياً فإن الهوى عن ربعهم ما ثنيناه