للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[بيان الحسد المذموم]

والحسد نوعان: مذموم ومكروه.

أما الحسد المذموم فهو حرام بكل حال، فحرام أن يحسد الإنسان غيره بمعنى: أن يتمني زوال نعمة الله عن الغير، إلا إذا كانت هذه النعمة قد وقعت في يد فاجر أو فاسد يستعين بها على محرم، ويستعين بها على تهييج الفتن، أو الصد عن سبيل الله عز وجل، فلا يضر المؤمن محبته زوالها عنه؛ لأنه لا يبغضها من حيث هي نعمة الله سبحانه وتعالى، ولكنه يبغضها من حيث هي آلة للفساد والشر لا غير، ولو أمن المؤمن فساد هذه العطية لم يتمن زوالها عنه، فهذه هي الحالة المستثناه من تمني زوال النعمة.

والحسد المذموم نوعان: النوع الأول: حسد على شيء محقق، أو نعمة موجودة، وذلك كما قال عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة:١٠٩]، فحسدوا المسلمين على نعمة الإسلام كما قال عز وجل: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤]، ولذلك حسد المشركون محمداً صلى الله عليه وسلم على نعمة الوحي.

فالحسد المذموم: أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم، وسواء تمنيت مع ذلك أن تزول عنه وتعود إليه أم تمنيت أن تزول عنه ولا تعود إليه.

وقد ذم الله سبحانه وتعالى هذا النوع في كتابه بقوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:٥٤].

وإنما كان مذموماً لأن فيه ظن أن الله سبحانه وتعالى أنعم على من لا يستحق، وفيه اعتراض على فضل الله سبحانه وتعالى الذي قال: ((وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ} [القصص:٦٨] وقال: {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ} [الحج:٧٥].

فقوله: (ما كان لهم الخيرة) أي: الاختيار والتقدير، والإنعام على هذا، حرمان هذا، بل هذا من فعل الله سبحانه وتعالى، فهذا فيه اعتراض ونسبة العبث إلى الله سبحانه وتعالى، وعدم الحكمة في أفعاله، وفيه ظن أن الله أنعم حيث لا يستحق صاحبها الخيرة، وكأنه أنعم على من لا يستحق، كما قال المشركون: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف:٣١ - ٣٢] وقال عز وجل: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء:٣٢].

فهذا بالنسبة للحسد على نعمة محققة بالفعل.

أما النوع الثاني من الحسد المذموم: فهو حسد على شيء مقدر، يعني: حسد على نعمة متوقعة، فيحسد الشخص من أن يلبسه الله نعمة، بل يحب أن يبقى على حاله من الجهد أو الفقر أو الضعف، أو فساد قلبه عن الله، أو قلة دينه.

فهو يتمنى عدم زوال ما هو فيه من نقص وعيب.

فهذا فيما يتعلق بالحسد على نعمة مقدرة، أو نعمة متوقعة، وكلا الأمرين -الحسد على نعمة محققة، أو على نعمة متوقعة- مذموم، والحاسد عدو نعمة الله، وعدو عباده، ممقوت عند الله وعند الناس، ولا يسود أبداً، ولذلك اشتهر بين الناس أن (الحقود لا يسود) فالناس لا يسودون عليهم إلا من يريد الإحسان إليهم، فأما عدو نعمة الله عليهم فلا يسودونه أبداً إلا قهراً، فلا يمكن أن يمكنوه من رقابهم، ولا أن يسودوه عليهم إلا قهراً، فإذا غلب عليهم قهراً وغصباً فإنهم يعدونه من البلايا والمصائب التي ابتلاهم الله بها، فهم يبغضونه وهو يبغضهم.