[أخلاق الشيخ ابن باز رحمه الله]
الحديث عن المترجم لا يكون مستوفى إذا لم يوف الجانب الخلقي عنه حقه يقول المترجم للشيخ: لقد أشرت قبل قليل إلى سجيته السمحة التي يعامل بها حتى المخالفين، وكانت إشارة عابرة لابد من الوقوف عندها ولو لحظات؛ وذلك أن الرجل بسماحته وحلمه وكرمه وأناته يكاد يكون صورة أنموذجية للتوجيه النبوي القائل: (تعلموا العلم، وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء) فالسكينة والوقار أبرز صفات الشيخ، وهما أول ما يواجه به الناس القرباء منه والبعداء من جلسائه أو زواره العابرين.
يقول أحد الشعراء في ممدوح له: يا من له ألف خل من عاشق وصديق أراك خليت للناس منزلاً في طريق يقول: ما أعلم أحداً أحق بهذا الوصف من الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، إن الناس ليتكوكبون حوله أينما وجد في المسجد في المنزل في الجامعة وإنه ليصغي لكل منهم في إقبال يخيل إليه أنه مختص برعايته، فلا ينصرفوا عنه حتى ينصرف هو، ومراجعوه من مختلف الطبقات، ومن مختلف الأرجاء، ولكل حاجته، هذا يقصده من أطراف المملكة يسأله الفتيا في أمر ضاق به العلماء، وذلك يفضي إليه بحاجة لا يجد فيها سوى الحلماء الكرماء، وربما كان بين هذا وذاك من لا يستحق اهتماماً ولا إصغاء، ولكنه لا يعدم منه الرعاية التي تجبر قلبه، وقد يكون بين المراجعين من يغلب عليه الحق فيسخط ويغلو لغير ضرورة، فلا يغير ذلك من حلم الشيخ، ولا يزد على الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان.
حصل موقف من أحد تلامذة الشيخ المعروفين له، فكان يحكي أنه خالف الشيخ في المسألة الفلانية، قال: ورددت عليه وقلت له: كذا وكذا فقال: كذا فرددت عليه بكلام فيه شيء من الشدة، فقال له أحد إخواننا الجالسين معه: أما تخشى أن تكلم ابن باز بهذا الأسلوب؟ فالأخ قال له: لا، فهذا الشيء لا نبالي به على الإطلاق؛ لأن الشيخ رجل يريد وجه الله، فلا تبال إذا اختلفت معه ما دام قصدك الحق، فهو لا يتغير قلبه.
فكان إذا حصل مثل هذا كمراجعة في الكلام لا يغير ذلك من حلمه، ولا يزيده إلا الدعاء له بالهداية، ودعوته إلى الأمان، وليس بالنادر أن يزدحم عليه هؤلاء حتى لا يدعون له متسعاً لراحة، ومع ذلك لا يحاول التخلص من مقامه الصعب، بل تراه يصغي لحاجة كل منهم بهدوئه المعهود، ويجيب كلاً بما يرى أنه الحق.
يقول الشيخ المجذوب: لقد دخلت سرادقه في منى ذات يوم، فإذا هو محاصر بهجمة من الناس قد أحاطت به من كل صوب، بعضهم مكب عليه، وبعضهم قائم ينتظر دوره، وهو راض يسمع ويجيب دون أن يبدو عليه أي تذمر؛ لأن الشيخ من صفاته الغريبة والفذة التواضع الشديد.
رأيته مرة في منى وقت رمي الجمرات، فكان يمشي في نعل رطب جداًً، ويلبس ثوباً قصيراً في غاية التواضع، ولولا نور العلم الذي كان يضفيه الله سبحانه وتعالى عليه لقلت: هذا رجل من الفقراء والمساكين ماشٍ بالعصا، والجندي يدله على مكان رمي الجمرات، فيرمي الجمرات وحده، فهل ينكر أحد أن هذا هو الملك الحقيقي، وأن هذا هو الزعيم من زعماء الحق، ومع هذا لا يحتاج إلى الشرطة ولا كذا وكذا، فهذا هو الملك الذي ليس بعده ملك في الدنيا.
يقول: ومع أن الشيخ يعطي كل زائر ومراجع حقه المناسب عند مجلسه وإسناده، فالملاحظ أن له عناية خاصة بالفقراء والضعفاء، حتى لقد رأيت منهم من تأخذه نشوة الاعتزاز مما يجده من انبساطه إليه، واهتمامه بشئونه الخاصة، كأنه واحد من أقرب الناس إليه.
فالشيخ كان منحازاً جداً للفقراء والضعفاء والمساكين، وكان كل الناس في السعودية وإلى اليوم لا يعبرون عن الشيخ إلا بالوالد، فهو كالأب لهم جميعاً كباراً وصغاراً، ما من أحد إلا ويحس أنه والده وأبوه، حتى الفقراء والضعفاء يفخرون بالاعتزاز أن الشيخ يعطيهم هذا القدر من الاهتمام، وهذا يذكر بمجلس سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فقد قيل في وصف مجلسه: ما رأيت الفقراء والضعفاء والمساكين في مجلس أعز منهم من مجلس سفيان، فقد كان يكرمهم جداً، ويعلي شأنهم، وهكذا الشيخ رحمه الله تعالى كان ينحاز جداً للفقراء والمساكين والضعفاء، ويعطف عليهم، ويحسن إليهم.
وفي الحقيقة أن سيرة الشيخ ابن باز هي ظاهرة غيرت مجرى التاريخ الإسلامي، خاصة في هذا العصر الذي أجدب بأمثال هذه النماذج الفذة، فلذلك نتوقع إن شاء الله تعالى أن تصدر تراجم كثيرة توفي الشيخ بعض حقه.
وقد وصف الشيخ ابن باز بأنه حاتم الطائي في هذا العصر من كرمه وجوده وإحسانه إلى الفقراء.
يقول الشيخ المجذوب حفظه الله تعالى: ولا أذيع سراً إذا قلت: إن نصيب هؤلاء من الشيخ لا يقتصر على حنانه وتلطفه، بل كثيراً ما يتجاوز ذلك إلى العون الذي يسد الحاجة، ولو كلفه ذلك الحيف على ميزانيته والذين يعرفون الشيخ عن قرب يقولون: إن الشيخ ما تمر أيام قليلة من الشهر بعدما يتقاضى مرتبه إلا ويكون قد استدان إلى أن يأتي الشهر الجديد، ويسدد الدين من مرتبه؛ لأن الشيخ كان لا يرد سائلاً أبداً.
يقول الشيخ: وإذا سمحت لنفسي برواية ما يتناقله عارفوه قلت: إن ذلك كثيراً ما يرهق الشيخ بتحميله ما لا يطيق.
بعض الناس يتصور الشيخ ابن باز شخصية سياسية، والحقيقة أن الموقع المتميز الذي كان فيه، هو أعظم من ذلك بكثير، وهذا نتيجة سر أودعه الله سبحانه وتعالى في قلوب خلقه، ويشير إليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا أحب الله عبداً نادى جبريل: يا جبريل! إن الله يحب فلاناً فأحبه، ثم ينادي جبريل في الملائكة بذلك، ثم يوضع له القبول في الأرض) إلى آخر الحديث المعروف، فهذا هو السر في الحقيقة، والشيخ ابن باز ليس شخصية سياسية، وإلا فالشيخ ما أعطي حقه الذي يستحق، الشيخ ابن باز كانت سيارته تقف أمام الحرم ليدخل يصلي في الحرم المكي، فقد كانت له هذه المكانة المتميزة التي يتربع بها في قلوب جميع أئمة أهل السنة وأنصار السنة في كل بقاع الأرض؛ وذلك لأن هذه المحبة التي أوجدها الله في قلوب العباد للشيخ رحمه الله ما كانت تستمد من موقعه ولا من وظيفته ولا غيرها؛ لأن أي وظيفة ستكون أقل مما ينبغي لإمام الدنيا، ولرجل الأمة، ولشيخ الإسلام في هذا الزمان.
يقول: ومما يندرج في هذا النطاق من أخلاق الشيخ طبيعة الكرم التي لا يملك لها تغييراً ولا تعديلاً، فعلى مائدته يلتقي بالصغير والكبير، والغريب والقريب، وما أحسب طعاماً له خلا من عديد الضيفان، حتى لكأنه هو القائل: إذا ما اصطنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي أخا سفر أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الحوادث من بعدي بهذه الأخلاق الرضية كان الشيخ رحمه الله يستجيب لدعوات الآخرين، فلا يستمسك عن حضورها إلا لرجل قام، وقد يكون الداعي له تلميذاً له أو واحداً من عامة الناس، يقول: وأذكر أني حللت في ضيافته أياماً بمدينة الرياض فلم يتناول غداءه إلا على مائدة غيره من الداعين له.
يعني: طوال الفترة التي مكث فيها الشيخ المجذوب معه كان الشيخ دائماً مدعواً عند أحد، فكانت الدعوات تتوالى عليه من كل صوب، فيأمر بتحديد ما يمكن إجابته منها في جدول خاص، فلا ينفك يعتذر به كلما زادت الدعوات عن عدد الأيام، وهذه من المسائل الكثيرة التي أرتني مدى حب الناس لهذا الرجل.
وقد كان وما يزال رحمه الله تعالى وقته مباحاً للمراجعين، يأخذون منه ما يشاءون كما يشاءون، ولكل منهم حاجته الخاصة، مما قد يحيط على أعماله الرسمية، فكان لابد من تنظيم أفضل لهذه الجوانب، فقسم الشيخ وقته حسب الإمكان، جزء للعمل الرسمي، وآخر للمستفتين والمراجعين، وثالث للمراسلات والاتصالات، يتناوب على الكتابة للشيخ عدد من المساعدين يقرءون له ما يريد من نصوص المراجع، وما يرد إليه من الرسائل، ثم يتلقون منه الفوائد التي لا يكاد يخلو منها يوم، وإذا كان كتّابه هؤلاء يستحقون الإشفاق لكثرة ما يتحملون من هذه المتاعب، فهو أحق منهم بإشفاق المحبين؛ لأن الجهد الذي كان يعانيه رحمه الله تعالى تنوء به العصبة أولو القوة.
والحق أن أحدنا ليتساءل في دهشة كيف يستطيع هذا الرجل النهوض بكل هذه الأعباء؟ ثم يتذكر أنها البركة التي يختص بها الله من يشاء من عباده، فتحقق لأحدهم من أعمال اليوم الواحد ما تضيق به الأسابيع، بل الأشهر من أعمال الآخرين، وعلى ضوء هذا الواقع الملموس من حماس حياة الشيخ لزم التفسير المعقول لذلك الإنتاج الضخم الذي خلفه للأجيال أولئك السابقون من أمثال ابن تيمية وابن الجوزي والنووي والكثيرين من صالحي المؤمنين.