[شرح حديث قصة بلال في نفقة النبي عليه الصلاة والسلام]
إنّ الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد: فقد روى الإمام أبو داود رحمه الله تعالى في سننه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض، فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال: يا بلال! إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع، فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك، فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي: كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني، فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق فإذا إنسان يسعى يدعو يا بلال! أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت حتى أتيته فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبشر، فقد جاءك الله تعالى بقضائك، ثم قال: ألم تر الركائب المناخات الأربع؟ فقلت: بلى، فقال: إن لك رقابهن وما عليهن، فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إلي عظيم فدَكَ، فاقبضهن واقض دينك، ففعلت، فذكر الحديث، ثم انصرفت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد، فسلمت عليه، فقال: ما فعل ما قبلك؟ قلت: قد قضى الله تعالى كل شيء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شيء، قال: أَفَضَل شيء؟ قلت: نعم، قال: انظر أن تريحني منه، فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني فقال: ما فعل الذي قبلك؟ قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث، حتى إذا صلى العتمة -يعني: من الغد- دعاني قال: ما فعل الذي قِبَلك؟ قال: قلت: قد أراحك الله منه يا رسول الله! فكبر وحمد الله؛ شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته، فهذا الذي سألتني عنه).
هذا الحديث رواه الإمام أبو داود في سننه في باب: في الإمام يقبل هدايا المشركين في كتاب الخراج، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود، ولم يروه بهذا التفصيل إلا أبو داود، وقد رواه بسنده عن عبد الله الهوزني قال: (لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب)، حلب هي بلدة بالشام، (فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شيء) أي: أن هذا الرجل كان يسأل بلالاً رضي الله تعالى عنه عن تفاصيل نفقة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان ينفق، وكيف كان يفعل؟ (فقال: ما كان له شيء) أي: لم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم شيء من المال، (كنت أنا الذي ألي ذلك منه) أي: كنت أنا الذي أتولى أحواله المالية ونفقاته، وأشرف عليها (منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي، وفي رواية: حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم).
قوله: (وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً) أي: ليس عليه شيء، (يأمرني فأنطلق فأستقرض) أي: فأستدين لذمة النبي عليه الصلاة والسلام ولحسابه، (فأشتري له البردة، فأكسوه، وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين) أي: حتى عرض لي رجل من المشركين، فقال: (يا بلال! إن عندي سعة) أي: إن عندي مالاً كثياًر، وأنا متيسر (فلا تستقرض من أحد إلا مني) أي: إذا احتجت إلى الاستقراض فلا تستقرض من أحد غيري قال: (ففعلت) أي: كنت أقترض منه عند الحاجة، وفي هذا جواز أن يحصل هذا النوع من التعامل حتى مع المشركين، (فلما أن كان ذات يوم توضأت، ثم قمت لأؤذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار) أي: أقْبل ذلك المشرك الذي قال لـ بلال: لا تستقرض من أحد إلا مني، في عصابة من التجار، أي: في جماعة من التجار، (فلما أن رآني قال: يا حبشي! قلت: يا لباه! -أي: لبيك- فتجهمني)، أي: تلقاني بوجه كريه، وعاملني بشدة وغلظة وجفاء، قال في القاموس: جهمه كمنعه وسمعه، أي: استقبله بوجه كريه.
(فتجهمني وقال لي قولاً غليظاً، وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قليل) أي: أنه يحذره ويعامله بهذه الغلظة مع أنه لم يتخلف، فالموعد لم يحلّ بعدُ، لكن هذا المشرك -بسوء خلقه- تجهمه لما لقيه، وقال له هذا الكلام الغليظ، وقال: (أتدري كم بينك وبين الشهر؟) أي: كم بينك وبين تمام هذا الشهر الذي نحن فيه؟ (قال: قلت قريب، قال: إنما بينك وبينه أربع) أي: أربع ليالٍ، (فآخذك بالذي عليك) أي: آخذك على رأس الشهر في مقابلة ما عليك من المال، وأتخذك عبداً في مقابلة ذلك المال، (فأردّك ترعى الغنم) أي: أُعيدك عبداً ترعى الغنم كما كنت من قبل، (فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس) أي: وجدت في نفسي من الهمّ، وتأثرت بهذا الكلام الذي جرحني كما يُجرح الناس بمثل هذا الكلام السيئ، (حتى إذا صليت العتمة) وهي صلاة العشاء، (رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله، فاستأذنت عليه فأذن لي، فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي)، وهذا من أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقبل أن يقدم طلبه، أو قبل أن يناجيه يقدم بهذه العبارة المؤثرة التي تعرب عن غاية الحب والتعظيم للنبي عليه الصلاة والسلام، فقوله: (بأبي أنت وأمي) معناها: أفديك بأبي وأمي، وأضحي بأبي وأمي من أجلك، أو أنت أعز عندي من أبي وأمي، فمعناها أنت مفدي بهما، صلى الله عليه وسلم، (فقلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي.
إن المشرك الذي كنت أتدين منه) أي: الذي كنت أستقرض وأستدين منه، (قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني، ولا عندي) أي: ولا عندي أنا أيضاً ما أقضيه به، (وهو فاضحي) أي: هو ناوٍ أن يفضحني إذا لم أوف له بهذا الدين، ففاضحي اسم فاعل مضاف إلى ياء المتكلم، ومعنى فضحه: كشف مساويه، (وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا) أي: ائذن لي أن أفر وأهرب قبل أن يحين الأجل إلى أن يرزقك الله سبحانه وتعالى مالاً فتقضي عني وحينئذ سأعود؛ حتى لا ينفذ ذلك المشرك وعيده، والأحياء جمع حي، وهو بمعنى القبيلة.
(إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا، حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني) أي: أنه صلى الله عليه وسلم كان يستدين لقضاء حاجات المسلمين عليه الصلاة والسلام.
(فخرجت حتى إذا أتيت منزلي، فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني عند رأسي)، هذا كل المتاع الذي كان يملكه بلال، والجراب هو وعاء من إهاب أو من جلد الشاة، والمجن: هو الترس، وفي رواية أخرى: (استقبلت بوجهي الأفق، فكلما نمت ساعة انتبهت، فإذا رأيت عليّ ليل نمت، حتى ينشق عمود الصبح الأول)، ويقول في الرواية التي هنا: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) أي: انصدع وطلع، وفي الحديث: (فلما انشق الفجر أمر بإقامة الصلاة) فهناك شق وفتحة في الأفق في موضع طلوع وخروج الفجر، وقوله: (حتى إذا انشق عمود الصبح الأول) المقصود به العمود المستطيل المرتفع في السماء، وهو الفجر الكاذب، وذلك غير الفجر الأحمر المنتشر في أفق السماء، فإنه الصبح الصادق، وبين الفجرين ساعة، فإنه يظهر الأول وبعد ظهوره يظهر الثاني ظهوراً بيناً، والفجر الذي تتعلق به الأحكام هو الفجر الثاني، فيدخل وقت الصوم ووقت صلاة الصبح بطلوع الفجر الثاني واستنارته وإضاءته، وهو المعترض بالضياء في أقصى المشرق، الذاهب من القبلة إلى دبرها حتى يعم الأفق، وينتشر على رءوس الجبال والقصور المشيدة.
والمعنى: أني أردت أن أسير في الصبح الكاذب؛ لكي لا يعرفني أحد بسبب ظلمة آخر الليل، وكان بلال رضي الله عنه قد أعد كل عدته، حتى لا ينكشف فيُفطن إلى أنه في حالة هروب من قضاء هذا الدين.
يقول بلال رضي ال