[نشأة الإمام الغزالي في أحضان التصوف وعودته إلى مذهب السلف]
هذا هو حال أبي حامد رحمه الله تعالى، وواجبنا أن نتأمل في تجربته وأن نستنبط منها العبر، وأعظم عبرة نستقيها من تجربة الإمام أبي حامد رحمه الله تعالى، هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح رحمه الله تعالى.
فالإمام أبو حامد في آخر أيامه ندم على تضييع عمره في هذه الطرق المشتتة، وعكف على دراسة علم الحديث، حتى إنه رحمه الله مات وصحيح البخاري على صدره رحمه الله تعالى، فأعظم عبرة نستخلصها من تجربته -كما سنرى- هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح، نادماً على بضاعة العمر النفيسة التي أنفقها في التحري والبحث والتنقل.
فحري بنا أن نحرص جميعاً على نقطة البداية ونحن نتلقى المفاهيم والعلوم، وهذه أعظم العبر، وهي أن كل إنسان عليه أن يهتم بنقطة البداية في تربية نفسه وتعليمها، أو في تربية غيره من أولاد أو غيرهم، فنقطة البداية تشكل محوراً خطيراً جداً في حياة أي إنسان، والغالب أن الإنسان دائماً يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه، ويتعصب لأول مدرسة ينتمي لها، فمن كان يراد له السعادة من الله سبحانه وتعالى وفقه الله إذا كان حدثاً أن ينشأ على يد رجل من أهل السنة والجماعة، وإن كان كافراً وأسلم أن يسلم على يد رجل من أهل السنة، وإلا فكم رأينا عشرات الكفار يسلمون على أيدي أناس لا علاقة لهم بالإسلام، ويظنون أن هذا هو الإسلام.
وعلى كل حال فالإنسان يتعصب ويتمسك بأول من يرشده إلى الإسلام، فإذا كان حظه سعيداً ووقع عند واحد من أهل السنة، فهذه من علامات إرادة الخير به.
وقد كانت نقطة البداية في تربية الإمام أبي حامد أنه نشأ في أحضان الصوفية، وتربى في كنفها، وترعرع في ظلالها، فإن كان الغزالي بدأ بالصوفية، وتدرج إلى الباطنية والفلاسفة والمتكلمين، وظن في النهاية أن طريق الخلاص والنجاة هو طريق التصوف، ثم ندم بعد ذلك على هذا كله ورجع إلى منهج السلف الصالح، وألف وقال كلاماً عظيما جداً في الانتقال إلى عقيدة السلف في نهاية عمره وفي آخر مؤلفاته، وإن كان -كما ذكرنا- مات والبخاري على صدره، من شدة اهتمامه وتعطشه إلى علم الحديث الذي أيقن أنه فرط في حقه كثيراً؛ فعلينا أن نبدأ من حيث انتهى الغزالي رحمه الله تعالى، وأن ندقق في الطريق الذي سوف نسلكه قبل أن تطأه أقدامنا، وننفق فيه بضاعة العمر، وإلا فإذا مشينا في طريق مسدود فسنقف في النهاية أمام سد منيع يحول بيننا وبين طريق النجاة، فنعض أناملنا، ويغشانا الندم ولات حين مندم! وقد قيل: فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فالأصل أن الإنسان إذا كانت بدايته فاسدة فإنها تستمر معه إلى النهاية والعياذ بالله، إلا من رحمه الله، ومن هنا عد السلف الصالح رحمهم الله تعالى من علامات السعادة للإنسان إذا نسك وإذا تعبد وإذا تاب: أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وأن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة والجماعة يضع قدميه منذ البداية على طريق الفرقة الناجية والطائفة الظاهرة المنصورة.