للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أصناف الناس عند دخول شهر رمضان]

يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:٤] ونذكر حديثاً شريفاً مناسباً لمعنى الآية عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فيه انقسام الناس إلى قسمين بسبب دخول رمضان، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، -أي: أقسم أبو هريرة بما حلف به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم- ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة، وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم، هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر).

وعنه رضي الله عنه من طريق آخر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أظلكم شهركم هذا بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الله ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه من قبل أن يدخله؛ وذاك لأن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة ويعد فيه المنافق اتباع غفلات المؤمنين واتباع عوراتهم، فهو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر)، وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر)، وهذا الحديث أخرجه البيهقي في السنن، والطبراني في الأوسط، وابن خزيمة، وسكت عنه المنذري، وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح.

فقوله عليه الصلاة والسلام: (ما أتى على المسلمين شهر خير لهم من رمضان، ولا أتى على المنافقين شهر شر لهم من رمضان، وذلك لما يعد المؤمنون فيه من القوة للعبادة) يعني: يعد المؤمنون لرمضان ما يقويهم على العبادة، فهم يدخرون ما ينفقونه على العيال قبل أن يدخل رمضان، وأيضاً كثير من الناس يخرجون زكواتهم في رمضان، وكثير من الناس يتهيئون لأداء العمرة في رمضان وغير ذلك، فتجدهم يخصصون ويتأهبون لقدوم رمضان قبل دخوله، فهم يعدون قبل دخول رمضان ما يحتاجونه حتى يتفرغوا لطاعة الله إذا دخل عليهم رمضان.

أما قوله: (وذلك أن المؤمن يعد فيه القوة من النفقة للعبادة) فيعني أن المؤمنين بسبب اشتغالهم بالعبادة في رمضان يمنعهم ذلك من تحصيل المعاش أو التقليل منه، فقيام الليل يستدعي النوم بالنهار، والاعتكاف يستدعي عدم الخروج من المسجد، وفي هذا تعطيل لأسباب المعاش، فهم يجمعون القوت وما يلزم لأولادهم في رمضان قبل حلوله ليتفرغوا فيه للعبادة وللإقبال على الله عز وجل ولاجتناء ثمرة هذا الموسم، فهو خير لهم مما أنفقوه؛ لما اكتسبوا فيه من الأجر العظيم والغفران العميم.

قوله عليه الصلاة والسلام: (وما يعد فيه المنافقون من غفلات الناس وعوراتهم) يعني أن هذا هو السبب في أن شهر رمضان شر على المنافقين، وما أكثر هؤلاء المنافقين من أعداء الله من قطاع الطريق إلى الله الذين يغتنمون فرصة التوبة والإنابة واستقامة الناس على طاعة الله وانفتاح أبواب الخيرات حتى يصدوا الناس عن ذلك الخير! وتراهم يجلبون بخيلهم ورجلهم ليل نهار، في النهار يريدون أن يفسدوا صيام الناس بالمعاصي بالأفلام وباللهو والعبث والفجور، وفي الليل بالسهر والعكوف أمام العجل الفضي (التلفزيون) وأمثاله.

فهو شر لهم؛ لأنهم يحرمون أنفسهم من هذا الخير العظيم، ويخسرون هذه الفضائل الجليلة، ولأنهم بدلاً من أن تكون هذه الأوقات الفاضلة عامرة بالطاعات إذا بهم يعكسون مقاصد دين الله ويحولونه إلى موسم للهو والعبث والفجور، وتتكاثر شياطين الإنس من الممثلين والفنانين وأمثالهم، وتراهم يفكرون كيف يلهون الناس عن الطاعة، وكيف يصدونهم عن طريق الله، وكيف يضيعون عليهم هذه الفرصة، ولا شك في أن هؤلاء وزرهم مضاعف؛ لأنهم ضلوا أنفسهم وصدوا غيرهم عن سبيل الله، وقطعوا الطريق إلى الله عز وجل على عباده التائبين.

إذاً: المنافقون يستعدون قبل شهر رمضان لإيذاء المسلمين في دينهم ودنياهم؛ لأن المسلمين في هذا الوقت طائعون لله غافلون عن الدنيا منقطعون إلى الله عز وجل، فيأتي هؤلاء المنافقون فيستغلون فرصة انشغال الطائعين بطاعة الله فيتتبعون عوراتهم، والمنافقون عندما يتتبعون عورات المؤمنين يعتبرون ذلك غنيمة حاضرة وفوزاً عظيماً، فهم يتوهمون أن هذه غنيمة اغتنموها في نظرهم، ولكنها في الحقيقة شر لهم لو كانوا يعلمون ما أعده الله لهم في الآخرة من العذاب المقيم وحرمانهم من فضله العميم، نعوذ بالله عز وجل من ذلك.

قال عليه الصلاة والسلام في نهاية الحديث: (هو غنم للمؤمن يغتنمه الفاجر) وفي رواية البيهقي: (فهو غنم للمؤمن ونقمة للفاجر) والمعنى أن الله عز وجل ينتقم من الفاجر ويذيقه العذاب الأليم لسوء فعله وإيذائه المؤمنين وتتبع عوراتهم، فيكون نقمة له، وأما المسلم فرمضان غنيمة له بما اكتسبه من صيام أيامه وقيام لياليه، والانقطاع إلى الله عز وجل بالعبادة فيه.

وقوله: (أظلكم شهركم هذا) يعني: أشرف عليكم وقرب منكم (بمحلوف رسول الله صلى عليه وسلم) يعني: إني أحلف بما حلف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم (ما مر بالمؤمنين شهر خير لهم منه، ولا بالمنافقين شهر شر لهم منه، إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله، ويكتب إصره وشقاءه -والإصر هنا الإثم والعقوبة- من قبل أن يدخله) أي: الله عز وجل يعلم ما كان وما سيكون، ولا حدود لعلمه سبحانه وتعالى.

فالله عز وجل يكتب قبل دخول الشهر أن فلاناً سيجني من هذا الشهر كذا وكذا من الطاعات والعبادات، وفلاناً سوف يجني كذا وكذا من الشقاء والإثم والإصر والعقاب.

فقوله: (إن الله عز وجل ليكتب أجره ونوافله من قبل أن يدخله) معناه أن المؤمن يستعد ويتهيأ لاستقبال رمضان قبل دخوله -كما ذكرنا في إعداد النفقة وإعداد القوت وغير ذلك- حتى يتفرغ ويجتهد في طاعة الله عز وجل في رمضان، فإن الله عز وجل يكتب له أجره ونوافله، وما سيترتب على أعماله هذه من الثواب قبل أن يدخل عليه شهر رمضان.

وقوله عليه الصلاة والسلام (ويعد المنافق اتباع غفلة الناس واتباع عوراتهم) معناه أن المنافق يعلم أن الناس مزدحمون في المساجد، فيستغل هذا المنافق اجتهاد عباد الله بالطاعات كالصلاة وغيرها فيسرق -مثلاً- أحذيتهم أو يسرق شيئاً من المسجد.

فانشغال المؤمنين بطاعة الله هو مكسب وغنيمة للمؤمن، يغتنمه المنافق، أي: يغتنم المنافق وقت انشغال الصالحين بالعبادة، وذلك بتتبع عوراتهم واغتنام غفلتهم.

فهذا الحديث ينبغي أن نستحضره، وذلك لأنه مهم جداً، وكم فرحت حين رأيت الشيخ أحمد شاكر رحمه الله تعالى قد صححه؛ لأن هذا الحديث هو عين ما نقصده الآن من التذكير به.