[أمر الشرع بمخالفة الكفار والنهي عن التشبه بهم]
ويقول عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:١٦]، فقوله عز وجل: (وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ) هذا نهي مطلق عن مشابهة الكفار.
وقال الحافظ ابن كثير: ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصلية والفرعية.
إن ترك التشبه بالكفار في أعمالهم وأقوالهم وأهوائهم من المقاصد والغايات التي أسسها القرآن الكريم، وبينها وفصلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحققها في أمور كثيرة من فروع الشريعة، في الصلاة والجنائز والصيام والأطعمة واللباس والزينة والآداب والعادات وغيرها.
قال عليه الصلاة والسلام: (ليس منا من عمل بسنة غيرنا) حتى عرف اليهود أن من خصائص الملة الحنيفية أنهم يتعمدون مخالفة المشركين والكفار من اليهود والنصارى وغيرهم.
اليهود الذين كانوا في المدينة عرفوا ذلك ولاحظوه من أفعال وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: (ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه!) رواه مسلم.
والنبي عليه الصلاة والسلام يقول أيضاً في الحديث الصحيح: (ومن تشبه بقوم فهو منهم).
وعن الحسن قال: قلما تشبه رجل بقوم إلا لحق بهم.
يعني: في الدنيا والآخرة.
وقال بعض مشيخة الأنصار رضي الله عنهم: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عثانينهم) عثانينهم: جمع عثنون وهي اللحية.
وتأملوا كلمة (يقصون) جيداً، ما قال: يحلقون وإنما قال: يقصون يعني: يقصرونها.
قال بعض مشيخة الأنصار: (يا رسول الله! إن أهل الكتاب يقصون عنانينهم -يعني: لحاهم- ويوفرون سبالهم -يعني: شواربهم- فقال عليه الصلاة والسلام: قصوا سبالكم، ووفروا عنانينكم، وخالفوا أهل الكتاب)، وهذا حديث حسن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) متفق عليه.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (جزوا الشوارب وأرخوا اللحى وخالفوا المجوس) رواه مسلم.
ويقول الإمام أبو شامة رحمه الله تعالى: وقد حدث قوم يحلقون لحاهم، وهو أشد مما نقل عن المجوس من أنهم كانوا يقصرونها.
فمما ينبغي أن نتنبه إليه جيداً أن المشركين الذي كانوا يعيشون في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا ذوي لحى، وهذه النقطة تسبب نوعاً من الاشتباه، وتلبس على بعض الناس هذا الأمر، والعرب ما عرفت حلق اللحية، ولعل هذا كان من بقايا دين إبراهيم عليه السلام الذي بقيت عليه العرب.
فالعرب لم تترك زينة اللحى لا في الجاهلية ولا في الإسلام، فقد كان أبو جهل ملتحياً، وكان أبو لهب ملتحياً، وهكذا.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام لما قال: (خالفوا المشركين، أحفوا الشوارب وأوفوا اللحى) يأتي بعض الناس ويتفلسفون ويقولون: الآن المشركون يعفون لحاهم! فنقول: هذا غير صحيح؛ لأن عامتهم يحلقونها، وهذه البلية ما جاءت إلا من قبلهم، لكن لو نسلم جدلاً أن المشركين يعفون اليوم لحاهم فهل نخالفهم بحلق لحانا؟! لا، فنقول لهؤلاء المغرر بهم: إنكم أسأتم فهم الحديث، والدليل على أنكم أسأتم فهمه أن المشركين الذين أمر الصحابة بمخالفتهم في هذه الأحاديث على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام كانوا ذوي لحى، إنما كانت المخالفة في التفاصيل وليس في أصل الفعل، والمعنى: أن اللحى تترك وتعفى لا تقص ولا تقصر مخالفةً للمجوس، فضلاً عمن يحلقها، والشوارب تقص ولا تترك مخالفة أيضاً لهؤلاء المشركين، حتى إن الغربيين كانوا يعفون لحاهم إلى أن أشاع الملك بطرس ملك روسيا حلق اللحية.
ومن الغربيين تسربت إلى المسلمين هذه السنة السيئة فيما بعد، فإذا حلقوا لحاهم فنحن نخالفهم في أصل الفعل؛ لأننا نفعل ذلك امتثالاً لأمر نبينا عليه الصلاة والسلام، وإذا أعفوا لحاهم نخالفهم في التفصيل وذلك بقص الشوارب.
نضيف إلى ذلك أن بعض الناس يلبسون في هذا الأمر بقولهم: إن هذا التعليل غير مستمر، أي: هم يقدحون في استمرار هذه العلة وهي مخالفة المشركين؛ لأن بعض المشركين اليوم لا يعفون لحاهم، فنقول: إن سنة أكثر المشركين اليوم هي حلق اللحية، بل ما تسربت هذه البدعة إلا من المشركين، وهم يستحسنون ذلك حتى تصبح وجوههم كوجوه النساء، وهم يعتبرون هذا من الزينة، وقد ذكرنا أن هذه زينة خاصة بالنساء، وآية ذلك أنك إذا تعودت أن ترى رجلاً معفياً لحيته، ثم رأيته فجأة قد حلق لحيته، فماذا يكون شعورك؟ تشمئز جداً، وتشعر كأنه مثل الأرنب الذي سلخ جلده، فأنت تنفر من المنظر؛ لأنك تعودت على رؤية الهيبة والوقار والزينة التي تليق بالرجال.
أما من أعفى لحيته من المشركين، فلماذا أعفاها؟ ربما يكون قد أعفاها اليهودي أو النصراني تديناً بذلك؛ اتباعاً لعيسى أو موسى، ولأن هذه سنة الأنبياء، ونحن نتفق معهم في هذه الفطرة.
وربما أعفى لحيته لأن إعفاء اللحية رجولة وفحولة، فنقول: بفعله هذا قد سلمت فطرته في هذه الجزئية، حيث رأى أن هذا من الرجولة، ففطرته سلمية في هذه الجزئية، وتوافقت شريعتنا فيها مع شريعتهم، ومثال ذلك: أن شريعتنا تأمر ببر الوالدين، وشريعتهم تأمر ببر الوالدين، فهل نترك بر الوالدين لأنهم يطيعون آباءهم؟! ونحن لا نزال نخالفهم في سنة قص الشوارب وهو أخذ ما طال عن الشفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يأخذ من شاربه فليس منا)، فإذا كان بعض الكفار اليوم كاليهود مثلاً يعفون لحاهم والآخرون يحلقونها، فنحن مأمورون بمخالفة الحالقين والمقصرين لا بمخالفة من أعفاها، فاليهود كفار، وفيهم من يعفي اللحية، وفيهم من يحلقها أو يقصرها، فمن الذي نخالفه من الأصناف الثلاثة؟ نخالف فقط الذي يقصر أو يحلق، أما الذي يعفي فنحن نوافقه فيها، فلو كانت القاعدة أن ما يفعله الكفار يجب اجتنابه مطلقاً لوجب علينا ترك القتال؛ لأن اليهود يقاتلون! فهل نخالف اليهود في ترك القتال، ونتمرد على الفطرة؟! كلا، كذلك لا يقدح في استمرار التعليل بمخالفة المشركين أن أكثر المسلمين اليوم يحلقون لحاهم، ويقولون: أكثر المسلمين يحلقون لحاهم، وهم بذلك يتميزون عن المشركين، فنقول: إذا كان أكثر المسلمين يحلقون لحاهم فإن القرآن والسنة حجة عليهم، وليسوا هم حجة على القرآن والسنة، وقد دل القرآن على تحريم تغيير خلق الله وتحريم التشبه بالنساء، ودلت السنة على أن إعفاء اللحية من خصال الفطرة التي لا تتبدل بتبدل الأزمان، فانحراف البعض عنها لا يجعلنا نرفض ما شرعه الله لنا وفطرنا عليه لمجرد أن يفرط فيه بعض المنتسبين إليه؛ لأنهم مأمورون بامتثال هذا الأمر.