إن هؤلاء الذين يذوبون في هوية غيرهم، ويبتغون عندهم العزة في الحقيقة أنهم يعودون مذمومين مخذولين من الفريقين، ويعاملهم الله بنقيض قصدهم، فهم يريدون العزة عند الكافرين، فيتحقق فيهم قول القائل: باء بالسخطتين فلا عشيرته رضيت عنه ولا رضيت عنه العباد لأنهم يحتقرون من يتنازل عن هويته، وهذا شيء نعاير به واقع المسلمين في قضية الهوية.
وكم رأينا الحيز الإعلامي الذي لم يسبق له مثيل الذي شغله موت أميرة ويلز في كل أرجاء العالم المنتسب إلى الإسلام وإلى الهوية الإسلامية! ورأينا ما صار إليه هذا الإعلام من السقوط، بينما نجد الإعلام غافلاً عن موت الشيخ محمود شاكر رحمه الله في نفس الفترة! وهذا يكشف لنا أزمة الهوية التي نعاني منها، وقضية الهوية هي قضية محورية أزعجت كل الناس إلا أصحابها والمشكلة تكمن في أن أكثر المسلمين اليوم لما يقتنعوا أن الأعداء من حولهم على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم لا هدف لهم إلا استئصال شأفة الإسلام، وطمس الهوية الإسلامية وصهرها في دائرة العالمية الأممية، وإزالتها من الوجود؛ لأنها هي لا غيرها الخطر الماثل أمام القوى الراغبة في احتواء العالم الإسلامي والسيطرة عليه سيطرة فعلية ودائمة، يقول تعالى:{وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}[البقرة:٢١٧]، وقال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النساء:٨٩]، وقال سبحانه:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ}[البقرة:١٢٠].
إن أي جماعة تملك الهوية سوف تجد في عالم تحكمه شريعة الغاب من يحاول الهيمنة عليها وتذويب شخصيتها عن طريق تدمير البنية التحتية لهويتها العقائدية والثقافية، ويجعل سياجاً على شخصيتها؛ فيتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل مغسول المخ تابعٍ مقلد.
إن هويتنا الإسلامية هي مصدر عزتنا، كما قال سبحانه:{وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}[المنافقون:٨] فحين تمسكنا بهذه الهوية سدنا العالم كله، حتى كنائس أوروبا لا تجرئ على دق نواقيسها حينما كانت السفن الإسلامية تعبر البحر المتوسط، يعني: أنهم لهيبتهم من المسلمين كانوا يتوقفون عن دق أجراس الكنائس إذا عبرت الجيوش الإسلامية البحر المتوسط أو مرت في موانيها.
ومن أراد أن يدرك الفرق بين العزة التي تكتسبها الأمة من الهوية الإسلامية وبين الذل حين تخلت عن هذه الهوية الإسلامية فلينظر إلى النموذج التركي الممسوخ؛ إنه أقبح صورة لمسخ الهوية، وأقبح مثال يمكن أن يضرب بالضياع والذل والهوان والخيانة التي يتنفس بها من تخلوا عن الهوية الإسلامية، حتى إن كل إعلام العالم يشتكي من فساد القنوات الفضائية التركية والانحلال الذي فيها، فبعدما كانت عاصمة الخلافة صارت الآن يخشى من الفساد الذي يبث منها، فمن أجل أن يتخلوا عن الإسلام حاربوا الإسلام، وفعلوا كل ما فعلوا من أجل أن يرضى عنهم الغربيون، ويدخلوهم في التجمع الأوروبي، لكن مع كل هذا احتقروهم وساموهم سوء العذاب والهوان والذل، ومع أن الدواء واضح وهو العودة إلى مصدر العز، لكنهم يأبون إلا الذل والهوان، فهذا أقبح نموذج لمسخ الهوية وما يترتب عليه من ضياع وهوان ومذلة.
فحين تخلينا عن هذه الهوية نزع الله من قلوب عدونا المهابة منا، وقذف في قلوبنا الوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، يقول صلى الله عليه وسلم:(إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم).
فإضعاف الهوية الإسلامية هي عملية انتحار جماعي، إن أي خلل في الهوية هو عبارة عن انتحار، فينتهي إلى الضياع وإلى التذبيح؛ فإضعاف هذه الهوية هو أخطر وأشد فتكاً بالأمة من نزع سلاحها.