للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الاجتهاد الممدوح والاجتهاد المذموم]

وننهي هذه المقدمة -وإن طالت لكنها مهمة- ببيان المقصود من هذا الحديث المظلوم الذي يتعلق به كل من أراد أن يطعن في الإسلام، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)، فهذا الحديث وارد في شأن القاضي، وألحق به المفتي بجامع أن كل واحد منهما مأمور بأن يصدر عن حكم شرعي، ولذلك يعذر كلاهما في الخطأ، فالمفتي إذا كان من أهل العلم ممن اجتمعت فيهم شرائط الفتيا، وبذَل وسعه للوصول إلى الحق، ثم أفتى بما غلب على ظنه أنه الحق بمقتضى الأدلة فأخطأ فلا إثم عليه في هذا الخطأ؛ لدخوله في القاعدة الذهبية التي دل عليها قوله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب:٥]، ولدخوله في هذا الحديث الشريف المشار إليه، فأجر اجتهاده باقٍ محفوظ لا يبطل بخطئه، فله أجران إن أصاب، وأجر إن أخطأ.

وأما إذا بلغ العالم مرتبة الاجتهاد وقصر في بذل الوسع، فأفتى وتكلم بدون أن يُعمِل هذه الإمكانيات التي عنده، ولم يبذل غاية وسعه للوصول إلى الحكم الشرعي في هذه المسألة، فلا ينطبق عليه هذا الحديث، بل إذا أخطأ فإنه يكون آثماً؛ لأن الحديث يقول: (إذا اجتهد فأخطأ فله أجر)، فلابد من أن يجتهد ويبذل وسعه، وبعد الاجتهاد وبذل الوسع: إذا أصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجر واحد على اجتهاده، وخطؤه مغفور له؛ لأن الشرع يأمره بأن يفتي؛ لوجوب الإفتاء، وقد فعل ما أمر به، فاستحق بذلك الأجر على العمل الذي قام به، لكن لا يكون أجره كأجر المصيب، فالمصيب دل على الحق، وهذا المخطئ لم يدل عليه.

وأما إذا أفتى من ليس أهلاً للفتيا فأخطأ فإنه لا يكون معذوراً بذلك، إذاً: من أفتى وليس أهلاً للفتيا فأخطأ، أو كان أهلاً للفتيا لكنه لم يبذل جهده لإحقاق الحق فأخطأ، فإنه لا يكون معذوراً بذلك، بل يكون آثماً؛ لأنه أضل عن سبيل الله، وقد قال الله تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل:٢٥]، وفي الحديث: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).

قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وإنما يؤجر الحاكم إذا أخطأ إذا كان عالماً بالاجتهاد فاجتهد، وأما إذا لم يكن عالماً فلا، واستدل بحديث: (القضاة ثلاثة)، وفي هذا الحديث يقول النبي عليه الصلاة والسلام: (القضاة ثلاثة: قاضٍ في الجنة، وقاضيان في النار، فأما الذي في الجنة فقاضٍ قضى بالحق فهو في الجنة، وأما القاضيان اللذان في النار: فقاضٍ قضى بغير حق فهو في النار) أي: أنه تعمد الإضلال والظلم والجور فهو في النار.

والنوع الثاني من القاضيين اللذين يدخلان النار: (وقاض قضى وهو لا يعلم فهو في النار) أي: أنه قضى وهو ليس أهلاً للقضاء فيكون آثماً ولو أصاب؛ لأن هذا ليس من تخصصه.

قال الخطابي رحمه الله: إنما يؤجر المجتهد إذا كان جامعاً لآلة الاجتهاد، فهو الذي نعذره بالخطأ، بخلاف المتكلف فيخاف عليه.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: لا يلزم من ردّ حكمه أو فتواه إذا اجتهد فأخطأ أن يأثم بذلك، بل إذا بذل وسعه أجر، فإن أصاب ضوعف أجره، لكن لو أقدم فحكم أو أفتى بغير علم لحقه الإثم.

وينبغي أن تكون الردود على الضلالات بعلم، وبما يليق بحال المردود عليه، فمثلاً لما حصلت ضجة حول نجيب محفوظ في روايته (أولاد حارتنا) وما فيها من الإلحاد والكفر بالله، وبالأنبياء، وبالإسلام، نجد بعض الشيوخ أو الناس يفتي ويقول: إن الأستاذ الفاضل أو الأديب الكبير العالمي نجيب محفوظ له وجهة نظر في هذا، ولكن إلى آخر هذا الأسلوب المتميع، فكل واحد منهم يريد أن يكون جنتل مان، فيترخصون في التلفظ بطريقة فظيعة جداً، نعم أن الحِلْم حسن لكنه في مثل هذا الموضع جهالة، فأسلوب الترفق بهؤلاء المجرمين الصادين عن سبيل الله، والطاعنين في دينه غير صحيح، فأقل شيء أن تُظهر حقيقته، وأن يكشف ويفضح جهله للناظرين؛ كي لا يلبَّس على الناس، وأما أن نقول: الأستاذ الكبير، والأديب العالمي فلان الفلاني، الذي يقول كذا، وهو له وجهة نظر في هذا، فهذا غير صحيح، ونفس هذا الأمر حصل في موضوع الشفاعة، فأحد الشخصيات الدينية البارزة يقول في مقدمة مقاله: وبعض الكتاب يرون -انطلاقاً من اجتهاد شخصي، ورؤية خاصة قد تكون صواباً وقد لا تكون- أنه لا شفاعة للنبي صلى الله عليه وسلم في العصابة المذنبين من أمته يوم القيامة إلى آخره، فهذا أسلوب في غاية الرقة، مع أن هذا المنكر للشفاعة لا يستحق هذا التلطف، ثم كيف يقال: قد تكون صواباً وقد لا تكون وهو يكذب بالأحاديث المتواترة في الشفاعة، والآيات القرآنية التي أساء فهمها ذلك الجاهل بجهله، وهذا القاصر بقصوره حتى يرد هذا الرد؟!! ونجد أن الشيخ نفسه في آخر الكلام يقول: وعلى أية حال فالمعروف أن فرقة المعتزلة تعطي العقل أحياناً أكثر من حجمه، أقول: هم دائماً يعطون العقل فوق حجمه وليس أحياناً.

ويقول أيضاً: ولو صح أن هذه الفرقة أنكرت شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أقول: لا يصح أن نقول هذا في المعتزلة؛ لأن هذا من أصول المعتزلة والخوارج الواضحة المعروفة.

قوله: فنحن نخالفهم في ذلك مخالفة تامة، ونرى أنه لا يصح الاستشهاد برأي مرجوح وترك الرأي الراجح، أقول: القضية ليست راجحاً ومرجوحاً، فالراجح والمرجوح في قضايا الفقه، وأما هنا فحق وباطل، بل ولا نقول: صواب وخطأ، وإنما هو حق وباطل، هكذا الأمر في قضايا العقيدة، وأما قضايا الفقه والفروع فهي التي نقول فيها: خطأ وصواب، وراجح ومرجوح.