أيضاً هناك أدلة على إثبات الإدراك والتمييز عند الكائنات كل بحسبه، كقوله تبارك وتعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام:{فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا}[النمل:١٩]، تأمل كلمة:(قولها)، ولو كان قولها رموزاً ومجازاً، هل كان يتعجب سليمان عليه السلام؟ وهل كان في تلك اللحظة سيقول:{رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ}[النمل:١٩] استحضاراً لهذه النعمة أن خصه الله بأن جعله يفقه لغة الطير، فهذا حقيقة وليس بمجاز، وإنما معنى قوله تعالى:(فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِنْ قَوْلِهَا) أي: من قول النملة، وماذا قالت النملة؟ بين الله قولها بقوله:{قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ}[النمل:١٨].
وقد اشتملت هذه الجملة القصيرة على عشرة أنواع من الخطاب: اشتملت على النداء (يَا)، والتنبيه (أَيُّهَا)، والتسمية (النَّمْلُ)، والأمر (ادْخُلُوا)، والنص (مَسَاكِنَكُمْ)، والتحذير (لا يَحْطِمَنَّكُمْ)، والتخصيص (سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ)، والتعميم والتفهيم والاعتذار (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ)، يعني: خصت سليمان وجنوده، ثم عممت وقالت:(وهم لا يشعرون) واعتذرت بأنهم لم يتعمدوا أن يقتلوكم، ولكن سوف يكون هذا بدون أن يشعروا، فهذا منتهى الأدب مع نبي الله سليمان عليه السلام ومع أصحابه.
وكذلك أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن جبل أحد بقوله:(هذا أحد جبل يحبنا ونحبه)، رواه البخاري، فانظر إلى الموالاة والحب في الله.
من ذلك أيضاً أنه عليه الصلاة والسلام رقى أحداً مرة وكان معه أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم، فرجف الجبل -أي: اهتز الجبل وتزلزل- فقال له النبي عليه السلام:(اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان)، والصديق هو: أبو بكر، والشهيدان هما: عمر وعثمان، وهذا رواه البخاري، وهذا من أعلام النبوة؛ لأنه أخبر أن عمر وعثمان سيكونان شهيدين، وقد قتلا رضي الله تعالى عنهما شهيدين.
وقال تبارك وتعالى:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً}[الأحزاب:٧٢]، وقوله:(إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ) هذا عرض تخيير ليس لأنها عصت، لكن خيرها فقال:{إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ}[الأحزاب:٧٢]، فأثبت أنه خلق لها إدراكاً لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وأثبت أنها أبت فقال:(فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا)، وأشفقت من حمل الأمانة.
ومما يؤيد وجود هذا الإدراك قوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ}[البقرة:٧٤].
ومما يؤيده أيضاً حنين الجذع، فقد كان للرسول عليه الصلاة والسلام جذع نخلة في المسجد، فكان إذا أراد أن يخطب اتكأ عليه، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بصنع المنبر، وصنع المنبر، وفي أول صلاة جمعة لما دخل المسجد مر على الجذع، ولم يستند إليه كما هي العادة، ورقى المنبر، فإذا بالجذع يبكي بكاء الصبي الذي يحن لأمه، وظل الجذع يتأوه، وكان صوته يسمع في جميع أرجاء المسجد، بكى حنيناً إلى رسول الله، وتألماً لفراقه، وظل صوته كالطفل الذي يبكي حتى نزل الرسول عليه السلام من على المنبر، وضم الجذع إليه، وربت عليه إلى أن سكن، وهذا كله كان أمام الصحابة، وهذا الحديث في البخاري.
إذاً: الجذع كان يحن إلى رسول الله، وكان يتفاعل معه، ويحبه، ويريد أن يقترب منه صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا كله يثبت أن الله سبحانه وتعالى قد يخلق في الجمادات من الإدراك ما تعي به أشياء كالعاقل.