[الإصرار على المعاصي]
السبب الثاني: الإصرار على المعاصي: فإن من أصر عليها يحصل في قلبه إلفها، وجميع ما ألفه الإنسان في عمره يذكره عند موته، فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، والذي يغلب على القلب هو مقياس لحظ الإنسان من الخير أو غيره، كما قال الشاعر: أآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند هبوبي يتحدث عن غلبة ذكر محبوبه له في حالتي النوم واليقظة! والإنسان إذا مات فآخر ما يفكر فيه هو أحب شيء إليه، وأكثر شيء كان يشغل باله وعقله، سواء كانت تشغله التجارة، أو يشغله المال، أو تشغله الدنيا، أو تشغله النساء، وهكذا فأكبر ما يلتصق بقلبك ويعمر قلبك هو الذي يشغلك في هاتين الحالتين: حالة اليقظة، وبداية النوم.
والمؤمن إذا أراد أن يختبر إيمانه فلينظر ما هو الشيء الذي يسبق إلى قلبه، فأحب شيء إليك هو الذي يقفز إلى ذهنك في هذه اللحظة، إن كان هو ذكر الله فإنك تستيقظ لذكر الله، لقيام الليل، لصلاة الفجر، للدعاء، أو للعمل والوظيفة، لملاقاة الأصدقاء والأحباب، وهكذا فما يغلب على قلبك يظهر في هاتين اللحظتين.
وكذلك يظهر ما تحبه عند الموت، فيغلب على قلبك ما عودت هذا القلب أن يدخله وأن يعمره، فمن اعتاد على المعاصي وألف المعاصي والأغاني والتلفزيون والفيديو والممثلين والرياضة والكرة ونحوها ظهر ذلك عند الموت، حتى رأينا من يرتبط بالموسيقى والغناء إلى آخر لحظة، ويقول: ادفنوني وضعوا معي العود الذي طالما صددت به عن سبيل الله، ويدفن معه العود الذي كان يعزف به في حياته سنوات كثيرة! فإن كان ميله إلى الطاعات أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر الطاعات، وإن كان ميله إلى المعاصي أكثر، يكون أكثر ما يحضره عند الموت ذكر المعاصي، فربما تغلب عليه حين نزول الموت به شهوة ومعصية من المعاصي، ويتقيد قلبه بها، وتصير حجاباً بينه وبين ربه وسبباً لشقاوته في آخر حياته، وقد جاء في الأثر: المعاصي بريد الكفر.
والذي لم يرتكب ذنباً أصلاً أو ارتكب وتاب فهو بعيد عن هذا الخطر، وأما الذي ارتكب ذنوباً كثيرة حتى كانت أكثر من طاعاته ولم يتب منها، بل كان مصراً عليها، فهذا الخطر في حقه عظيم جداً؛ إذ قد يكون غلبة الإلف بها سبباً لأن يتمثل في قلبه صورتها، ويقع منه ميل إليها، وتقبض روحه عليها، فتكون سبباً لسوء خاتمته.
ينتقل إلى الدار الآخرة وهو عظيم الحسرة على متاع الدنيا الذي سيفارقه، فيستحسر لفراق خلانه وأصدقائه ومحبوباته من أعراض الدنيا.
ويعرف ذلك بمثال: وهو أن الإنسان يرى في منامه من الأحوال التي ألفها طول عمره، حتى إن الذي قضى عمره في العلم يرى من الأحوال المتعلقة بالعلم والعلماء، والذي قضى عمره في الخياطة يرى من الأحوال المتعلقة بالخياطة والخياط، إذ لا يحضر في حال النوم إلا ما حصل له مناسبة مع قلبه لطول الإلف.
والموت وإن كان فوق النوم، ولكن سكراته وما يتقدمه من الغشي قريب من النوم، فطول الإلف بالمعاصي يقتضي تذكرها عند الموت وعودها في القلب وتمثلها فيه وميل النفس إليها، وإن قبض روحه في تلك الحالة يختم له بالسوء.
قال الذهبي في الكبائر: قال مجاهد: ما من ميت يموت إلا مُثِّل له جلساؤه الذين كان يجالسهم، فاحتضر رجل ممن كان يلعب بالشطرنج فقيل له: قل: لا إله إلا الله.
فقال: شاهك -يبدو أن هذه عبارات يستعملها لاعبو الشطرنج- ثم مات، فغلب على لسانه ما كان يعتاده حال حياته في اللعب، فقال عوض كلمة التوحيد: شاهك.
وإنسان آخر كان يجالس شراب الخمر حين حضره الموت جاءه إنسان يلقنه الشهادة - يقول له: قل: لا إله إلا الله- فقال له: اشرب واسقني، ثم مات، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
فبعض الناس يتصور أن النطق بكلمة الشهادة (لا إله إلا الله) سهل عند الموت، كلا، لقد جاء في الحديث: (من رزقهن) فهذا رزق وهذا توفيق، ولن تكون الحركة إرادية كما هي الآن، حركة اللسان الآن إرادية إن أردت أن تتكلم تكلمت، وإن أردت أن تسكت ملكت لسانك، لكن في تلك اللحظة لا سلطان لك على لسانك، وإنما الموفق من وفقه الله، والسعيد من أسعده الله تبارك وتعالى، فوفقه وأجرى لسانه بهذه الكلمة الشريفة أن ينطق بـ (لا إله إلا الله).
الإنسان إذا أصابه مرض شديد أو ثقيل أحياناً يريد أن يذكر الله فلا يستطيع من شدة الإعياء ومن شدة المرض الذي يصيبه، فلا يقوى على ذلك، فكيف عند معاناة سكرات الموت التي قال فيها أحب الخلق إلى الله تبارك وتعالى: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات) ويضع يده في الماء ثم يضعها على جبهته ويقول: (اللهم أعني على سكرات الموت) فكيف يفعل من هو دون سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم؟ فهذا ليس في طاقة الإنسان، فبعض الناس تسوف له نفسه ويقول: حينها سأقول: لا إله إلا الله وأدخل الجنة! يمنيه الشيطان ويغره!