كذلك من هذه الأسباب الحرص على وصية الرجل الصالح حتى تنتفع بها وقت المحنة، والإمام أحمد لما حمل إلى المأمون في الأغلال وقد توعده المأمون وعيداً شديداً قبل أن يصل إليه في الأغلال، حتى قال القادم للإمام أحمد: يا أبا عبد الله! إن المأمون قد سل سيفاً لم يسله قبل ذلك، وإنه يقسم بقرابته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لئن لم تجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنك بذلك السيف.
لما حصل ذلك قفز أهل البصرة إلى الإمام أحمد يثبتونه في هذه المحنة، يقول أبو جعفر الأنباري: لما حمل أحمد إلى المأمون أخبرت فعبرت الفرات فإذا هو جالس في الخان فسلمت عليه، فقال: يا أبا جعفر! تعنَّيت -أي: أتعبت نفسك حتى أتيت- فقْلت: يا هذا! أنت اليوم رأس، والناس يقتدون بك، فوالله لأن أجبت إلى خلق القرآن ليجيبن خلق، وإن لم تجب ليمتنعن خلق من الناس كثير، ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك لا بد من الموت، فاتق الله ولا تجب.
فجعل الإمام أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله! ثم قال: يا أبا جعفر! أعد فأعدت عليه وهو يقول: ما شاء الله! وقال أيضاً الإمام أحمد في سياق رحلته إلى المأمون: سرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل، فعرض لنا رجل فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل: إنه هذا.
فقال للجمال: على رسلك انتظر.
ثم قال: يا هذا -يخاطب الإمام أحمد! - ما عليك أن تقتل هاهنا وتدخل الجنة! ثم قال: أستودعك الله فمضى، ثم سألت عنه فقيل: هذا رجل من العرب من ربيعة يعمل الصوف في البادية يقال له جابر بن عامر يذكر بخير.
أيضاً يقول الإمام أحمد: ما سمعت كلمةً منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة سوق، قال: يا أحمد! إن يقتلك الحق مت شهيداً، وإن عشت عشت حميداً.
يقول: فقوي قلبي.
حتى أهل السجن الذين كان يصلي بهم الإمام أحمد ساهموا في تثبيته في وقت المحنة، فقد قال الإمام أحمد مرةً في الحبس، لست أبالي بالحبس ما هو ومنزلي إلا واحد، ولا قتلاً بالسيف، إنما أخاف فتنة السوط، فسمعه بعض أهل الحبس فقال: لا عليك يا أبا عبد الله، فما هو إلا سوطان ثم لا تدري أين يقع الباقي، فكأنه سلي عنه رحمه الله، فعلى الإنسان أن يحرص على طلب الوصية من الصالحين ومن أهل العلم والصلاح حتى ينتفع بها خصوصاً في وقت المحن إذا خشي أن يقع منه تفريط في دينه أثناء الابتلاء.