[تضمن عقيدة التوحيد لإفراد الحكم لله]
ثم إن عقيدة التوحيد تتضمن إفراد الله سبحانه وتعالى بالحكم والتشريع، وهذه المعاني للأسف في وسط الجو الذي نعيش فيه الآن أصبحت عند كثير من الناس معان غريبة مهجورة رغم أنها أصل دين الإسلام، وصلب عقيدة التوحيد؛ لأننا -كما قلت- في عصر زلزلة الثوابت زلازل على مقياس ريختر تكون في أعلى ما يكون، فتهد الدين من جذوره وأصوله، فلا بد أن ننتبه إلى تأثير مثل هذه الأشياء على عقائدنا وعلى زلزلة ثوابت هذا الدين، وهو أخطر ما نتعرض له الآن.
فإذاً: من اتبع غير شرع الله في خلاف شريعة الله وهو يعلم أنه خلاف حكم الله، وترك تحليل الله وتحريمه إلى تحليل غيره وتحريمه فهذا شرك بلا نزاع، وهذا متخذ لهذا المصدر الجديد إلهاً من دون الله تبارك وتعالى، إذا كان الأمر كذلك فقد صح أن السيادة للشرع لا غير، وأن الوحي المعصوم وحده هو مصدر التحليل والتحريم فقط لا غير، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:٢١]، ويقول تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:٣١].
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، وحرم الحلال المجمع عليه أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافراً مرتداً باتفاق الفقهاء، وفي مثل هذا نزل قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:٤٤] أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله.
ويقول في موضع آخر: وأما إذا حكم حكماً عاماً في دين المسلمين فجعل الباطل حقاً والحق باطلاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، والمعروف منكراً، والمنكر معروفاً، ونهى عما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأمر بما نهى عنه الله ورسوله، فهذا لون آخر يحكم فيه رب العالمين، وإله المرسلين، مالك يوم الدين الذي له الحمد في الأولى والآخرة، وله الحكم وإليه ترجعون.
إذاً: هذا كله يدل على أن السيادة العليا والسلطان المطلق للشرع لا غير، وقد أوجبت قواطع الشريعة التحاكم إلى الشرع الشريف، وجعلته شرطاً للإيمان، ونفت الإيمان، بل أثبتت النفاق لمن يعرض عن هدي الله عز وجل، ويصد عن التحاكم إلى الله وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة:٤٩] كما قلنا: الهوى دائماً عدو للوحي الشريف، وقال الله عز وجل: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء:٥٩]، وقال تعالى: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى:١٠]، وقال عز وجل: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥] فأقسم بذاته المقدسة على نفي الإيمان عمن لم يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيما شجر بينهم، أو وجد في نفسه حرجاً من حكمه.
يقول الإمام الجصاص الرازي رحمه الله تعالى: وفي هذه الآية وهي قوله تعالى: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُون) دلالة على أن من رد شيئاً من أوامر الله تعالى أو أوامر رسوله صلى الله عليه وسلم فهو خارج عن الإسلام سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة ترك القبول والامتناع من التسليم، وذلك يوجب صحة ما ذهب إليه الصحابة في حكمهم بارتداد من امتنع من أداء الزكاة، وقتلهم، وسبي ذراريهم؛ لأن الله تعالى حكم بأن من لم يسلم للنبي صلى الله عليه وسلم قضاءه وحكمه فليس من أهل الإيمان.
وهذا في الذين امتنعوا من أداء الزكاة جحوداً، أما المتأولون فهذا كان لهم حكم البغاة.
ويقول شيخ الإسلام أيضاً: ومحمد صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى جميع الثقلين إنسهم وجنهم، فمن اعتقد أنه يسوغ لأحد الخروج عن شريعته وطاعته فهو كافر يجب قتله.
ويقول الحافظ ابن كثير: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه؟ فمن فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين.
وهذا كله دليل على أن السيادة للشرع لا لغيره، وأن ما عدا الشرع الإسلامي الشريف كفر وضلال.
ويقول الله تعالى أيضاً: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيدًا * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء:٦٠ - ٦١].
فالإيمان لا يعدو أن يكون زعماً إذا أراد صاحبه أن يتحاكم إلى الطاغوت، والطاغوت هنا يقابل ما أنزل الله، وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، والكفر بهذا الطاغوت هو أقصى درجات الرفض والتبرؤ، وهو الحكم الشرعي الواجب في مواجهته، والصد عن التحاكم إلى الشرع شأن المنافقين الذين آمنت ألسنتهم وكفرت قلوبهم.
يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: من تحاكم أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، والطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله.
وقد تكرر الأمر المطلق بطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم زهاء ثمانية وعشرين مرة، ولم تأت الشريعة بطاعة مطلقة لأحد بعد الله وبعد رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالطاعة لأولي الأمر مشروطة بطاعتهم لله؛ لأنه لا طاعة في معصية، و (إنما الطاعة بالمعروف)، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (على المرء السمع والطاعة فيما أحب وكره ما لم يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة) ويقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:٥٩] وكررت الآيات ذكر الطاعة مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم تكرره مع ولي الأمر للدلالة على أن الطاعة لهم ليست مطلقة، بل فيما كان طاعة لله وللمسلمين فيه مصلحة، حتى طاعة الأبوين هي طاعة مقيدة وليست مطلقة قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:١٥] وطاعة الزوج أيضاً مقيدة إذ لا طاعة لزوج في معصية الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لأحد في معصية الله إنما الطاعة في المعروف)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، وقال أيضاً: (لا طاعة لمن لم يطع الله).
وقال شيخ الإسلام: إن من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب، فإن تاب وإلا قتل.
يعني: من قال: إنه يجب تقليد أبي حنيفة أو الشافعي أو مالك أو نحو ذلك فيستتاب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه قال كلمة: (يجب) لأن الله لم يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة في كل ما يأتي ويذر سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما من عدا ذلك فلا يوجد عالم واحد من علماء المسلمين يقول: يجب أن تقلد الشافعي أو مالكاً أو أحمد أو أبا حنيفة، وإنما أقصى ما في التقليد أنه يسوغ أو يجوز رخصة للمقلد غير المجتهد في أوضاع معروفة، لكن من قال: يجب تقليد إمام بعينه ويأثم من لم يفعل، علماً بأنه لو أخذ بقوله بالدليل فيكون هذا مما يؤمر به، لكنه يأخذ قول الإمام دون أن يعرف دليلاً، وهذا هو التقليد.
فيقول شيخ الإسلام: من أوجب تقليد إمام بعينه استتيب فإن تاب وإلا قتل؛ لأنه يوجب طاعة شخص طاعة مطلقة غير الرسول صلى الله عليه وسلم، فالطاعة المطلقة والاتباع المطلق لا يكون إلا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمن أسبغ هذه المنزلة على أحد من الناس فقد أشرك بالله عز وجل.
إذاً: هذا كله يثبت أيضاً أن السيادة للشرع لا غير، حتى الإجماع، يعني: الإجماع نفسه الذي إذا ثبت فإنه يعد حجة شرعية قاطعة ومعصومة؛ لأن الأمة لا تجتمع على ضلالة، فإذا انعقد الإجماع بالفعل وثبت، فإنه أصل من أصول الشريعة، لكن مع ذلك الإجماع لا ينعقد إلا على نص، فأولى ألا ينعقد على خلاف نص شرعي.
وهذا أيضاً يدل على أن السيادة للشرع؛ لأن الإجماع عندما ينعقد فإنه يكون إجماعاً على نص، فالمرجع إلى النص لا غير، فالأمة في الإسلام لا تملك أن تنشئ الأحكام كما هو الحال عند الغربيين، وإنما يقتصر دورها على فهم الأدلة والتخريج عليها، يعني: دستور الدولة اللقيطة في فلسطين المحتلة دستورها هو التوراة، وهم ينتسبون زوراً إلى نبي الله إسرائيل أو يعقوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون المسلمون دستورهم هو القرآن، فإذا كان المستند في الإجماع هو النص فما فائدة الإجماع حينئذ؟ فائدته قطع الشك في دلالة الحكم على المراد، فجميع الأئمة في الاجتهاد فهموا النص بهذه الطريقة فخرجوا منه بالإجماع على مسألة معينة، فعندما تقول: إن هذا إ