للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر]

من الأسباب التهاون في قضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتعلل بحجج باردة لا تغني عن صاحبها شيئاً، والإنسان إذا قصّر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خاصة إذا وجب عليه فهذا يضعف الغيرة في القلب على الحرمات، فالشيطان يلبس على الناس فيقول المرء: أنا آمر وأنهى ولم أتعلم علماً كثيراً من العلم.

لكن تستطيع أن تأمر وتنهى فيما هو معلوم في الدين من الضرورة وما أكثره في مجتمعنا! رجل يضيع الصلاة هل هذا يحتاج إلى أن تتفقه عشر سنوات حتى تأمره بصلاة الجمعة التي يهجرها أو صلاة الجماعة أو الصلاة أصلاً إذا كان تاركاً للصلاة؟ والربا والخمر ونحو هذه الأشياء لا يسع مسلماً أن يجهلها، ولا تحتاج إلى مراجع كبيرة وسنوات كثيرة حتى تتعلمها لتنكرها، والتبرج والتهتك الذي يحصل من النساء، كل هذه الأشياء لا بد للإنسان من أن ينكرها، وكلما مررت على المنكر ولم تنكره أو المعروف ولم تأمر به ففي هذه الحالة لا تظن أن قلبك في حالة سكون، لا بد أن يتأثر بكل ما يراه، يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً) يعني: الفتن تعرض على نفس الشكل على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً.

ولم يقل: تُعرض على العين وإنما: على القلوب.

وربما تكون الوسيلة هي العين وربما تكون هي الأذن، لكن في النهاية تصل إلى القلب ويتأثر شئت أم أبيت، ومعنى (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير) أنه إذا نام الإنسان وقد كشف جنبه على الحصير فبعدما يستيقظ يجد أثراً لهذا الحصير في جنبه على هيئة خطوط في لحمه وجلده، فهذا هو عرض الحصير، فمعنى ذلك أن الفتن مثل الحصير، والجنب مثل القلب، فما دام الإنسان يتعرض للفتن ويعيش في جو فيه فتن لا بد أن قلبه سيتخذ موقفاً من هذه الفتنة، ويتأثر سلباً أو إيجاباً، زيادةً أو نقصاناً، فإن القلب يتأثر بالفتن كما يتأثر الجنب بالحصير إذا نام عليه، ولا بد أن ينطبع في قلبك شيء إزاء كل فتنة، يقول عليه الصلاة والسلام: (تُعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأيما قلبٍ أُشربها-تشرب بها وقبلها- نُكتت فيه نكتةٌ سوداء) إذا مرت عليك فتنة لم تنكرها بدرجة الإنكار الواجبة عليك سواء الإنكار باليد إن كنت قادراً على ذلك وبشروطه، أو الإنكار باللسان أو الإنكار بالقلب الذي هو فرض عين على كل مسلم، أما إنكار المنكر بالقلب فليس فرض كفاية، وليس بعده شيء اسمه استطاعة، والحديث فيه: (فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه) ولم يقل: (فإن لم يستطع) بعد إنكار القلب؛ لأن القلب لا سلطان لأحد عليه، حتى الإكراه، فقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ} [النحل:١٠٦]، فالقلب إذا رضي بالمنكر فإنه يموت ويخرج منه الإيمان؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (وليس وراء ذلك من الإيمان مثقال حبةٍ من خردل)، فينتفي الإيمان من القلب في هذه الحالة.

(وأيما قلب أنكرها نكتت فيه نكتةٌ بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين) تنقسم القلوب بعد حصول هذه الفتن والتعرض لها إلى نوعين: قلب أسود مرباد - معكر- كالكوز مجخياً.

أي: كالكوز المنكوس المقلوب الذي قاعدته إلى أعلى فلا يستوعب الخير، فإذا وضعت فيه أي شيء كسائل أو حبوب فإنه سيقع لأنه منكوت، كذلك هذا القلب إذا ابتلي -والعياذ بالله- بالاستجابة وقبول الفتن وتشربها فإنه يمرض ويعتل، ولا يعرف معروفاً، ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من الهوى.

وقلب أبيض لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، فإذاًَ الشيطان يزين للإنسان كما يزين لبعض الناس الجهلة، يقول: أنا سأحج لكن حين يقوى إيماني، وسألتحي لكن لما يقوى إيماني قليلاً، وتقول المرأة: سأتحجب لكن لما يقوى إيماني.

كلا، الطاعة هي التي تقوي الإيمان، والإيمان يزيد وينقص كما هو مقرر عند أهل السنة، يزيد بأسباب وينقص أيضاً بأسباب، فعليك أن تأخذ بهذه الأسباب وتستعين بالله، وتجتنب أسباب النقص، فيزيد الإيمان بالطاعات وينقص بالمعاصي، فمن أعظم الطاعات التي ترضي الله عز وجل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:١ - ٢] كل إنسان دب على وجه هذه الأرض فهو في خسر، فهذه قاعدة {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:٣] حتى الإنسان ولو كان مقصراً فإنه يجب عليه -ما دام يستطيع- أن ينهى عن المنكر، يقول بعض العلماء: فرض على شاربي الكئوس أن يعظ بعضهم بعضاً، فالذين جلسوا في منتزه يشربون الخمر عليهم وزران: الوزر الأول: أنهم يشربون الخمر.

الوزر الثاني: وزر ترك الإنكار؛ لأنهم مجموعة، والواجب أن يتواصوا بالحق، ويتواصوا بالصبر على هذا الحق، فهم يقصرون أولاً بمعصية شرب الخمر، ويقصرون ثانياً أنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن هذا المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:٧٨ - ٧٩] لماذا؟ لأنهم لم ينه بعضهم بعضاً عن المنكر، فبعض الناس يقول: كيف أنهى وأنا مقصر؟ نعم أنت مأمور بالأمرين: أن لا تقصر وأن تنهى عن المنكر، لكن أن تضيع أمراً واحداً أهون من أن تضيع أمرين، ولعلك إذا أخلصت النية لله ونويت فلعل الله يقوي إيمانك، وببركة هذا الإخلاص لوجه الله يصلح الله حالك وقلبك، ويعالجه من علله، ففي هذه الحالة تكون فيه بركة عظيمة، فلو لم يوعظ إلا من كان نقياً من الذنوب فمن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سيعظ الناس؟ من كان سيحمل رسالة الإسلام ويجاهد في سبيلها؟ فالإنسان لا يستسلم للشيطان بسبب ذنوبه وتقصيره، لكن عليه أن ينهض من العثرة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يسوف.

ولا يؤجل، ولا يعتذر بالتقصير والمعاصي بقوله: حينما يقوى إيماني سأنهى عن المنكر.

كلا، إذا أردت أن تقوي إيمانك فمن أعظم أسباب قوة الإيمان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والآن وأنت خارج من المسجد، وأنت تسير في الشارع توجد منكرات -والعياذ بالله- كثيرة، فجرب نفسك أسبوعاً كاملاً، إذا رأيت منكراً تُنكر باللسان، وسوف تحسها في نفسك، وتجد حلاوتها في قلبك، فأنت منتفع على كل الأحوال، أنت لا يحاسبك الله بأن تحول قلوب الناس {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:٢١ - ٢٢] يعني: لا تصطدم ولا تيأس ولا تفتر وتضعف همتك إذا لم يستجب الناس لك، وإذا آذاك الناس، وإذا ردوا عليك رداً سيئاً.

ومع ذلك كثير من الناس ما زال فيهم خير لا يؤذون من يأمرهم وينهاهم، لكن نحن الذين نقصر ونبتعد عن الناس، وربما الإنسان عندما يقرأ في بعض الجرائد أو المجلات الإسلامية قصص توبة بعض هؤلاء الملقبين بالفنانين والممثلين والمغنين يعجب، فعلى ما هم فيه من الغفلة لا نتصور أن فيهم شيئاً من الخير أبداً، لكن عندما تسمع القصص والحوار، وكيف بدأت توبة فلانة وتقول مثلاً: أول من هنأتني على التوبة فلانة وفلانة وفلانة.

وتذكر أسماء أناس كانوا رواد الفسق والمعاصي والتمثيل، إذاً تحس من خلال واقع هؤلاء التائبين أن هناك تقصيراً من الدعاة، لكن ضالة الداعية إلى الله الشخص الكافر، وإلا يكون الأمر تحصيل حاصل إذا كان من نخاطبهم ونوصل دعوتنا إليهم هم الملتزمون، فهذه ليست ضالة الداعية، ضالة الداعية هو الفاسق والمقصر والعاصي، تبحث عنه وتزين له بضاعتك كما يزين التاجر بضاعته، اصبر على أذى الذين يرفعون شعار (الزبون دائماً على حق) لماذا؟ حتى يحصل على مال، وحتى يحسن علاقته مع الزبون، ويخاف العمال الذين يعملون في المتجر من أن يسيئوا أخلاقهم مع الزبائن، فهذا أسلوب منفر، فيرفع شعار (الزبون دائماً على حق)، ويزين المحل، ويعمل له ديكوراً في الخارج، ويعلن عن تخفيض الأسعار، ويعمل كل شيء من أجل أن يزين بضاعته ولا ينفر منها من يدعوه إلى الشراء، ولماذا نحن نقصر في هذا؟ لماذا لا نزين دعوتنا للناس؟ لماذا لا نحاول أن نبحث عن أفضل ثوب ونعرضها فيه؟ لماذا لا نصبر على من يؤذينا؟ التاجر يصبر لأجل العيش وأنت تصبر وتقول: أريد الجنة التي هي أوسع من السماوات والأرض، هذا عرضها فكيف بطولها؟ ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة! {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:١١١]، فلماذا سلعة الله تريدها وأنت مقصر ومفرط؟! فالشاهد أنك تسلك هذا المسلك بل تكون أعظم اجتهاداً؛ لأنك تريد أعظم مما يريده ذلك التاجر.