[دور العلماء في الرد على من يتهاون بالهدي الشرعي الظاهر بدعوى أنه قشور]
لقد كان للعلماء صولات كثيرة في كل عصر من العصور في التصدي لظاهرة التهاون بالهدي الظاهر والسمت النبوي المحمدي وادعاء أن هذا من القشور.
من ذلك أن التهاون بالهدي الظاهر لابد أن يقترن به التشبه بالمشركين، فإن جاز التسامح في تقسيم الدين إلى قشر ولبّ، فالقشر لم يخلق عبثاً، وإنما هو الحارس الأمين لما بداخله من اللب؛ لأنه لابد لكل ثمرة من قشرة، وكل إنسان إن لم يتمسك بقشرة المسلمين فإنه سيتمسك بقشرة الكفار؛ لأننا لسنا أرواحاً ولا أفئدة فقط، ولكن لنا أجساداً فلابد لنا من مظهر.
إذاً: فكل من تخلى عن المظهر الإسلامي والقشرة الإسلامية على حد تعبيرهم، فإنه لابد أن يتمسك بقشرة غير دين المسلمين من الكافرين؛ ولذلك كثر كلام العلماء واستفاضت مؤلفاتهم في تأصيل هذا الأصل الخطير، وهو الردّ على من يتهاون بالهدي الظاهر بدعوى أنه قشور، وبيان أنه يقترن غالباً بالتمسك بهدي الكفار وسمتهم.
ولعل من أعظم وأكبر ما أُلّف في ذلك، ذلك السَّفْر النفيس الذي ألّفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم)، ومنها أيضاً رسالة لطيفة تسمى: (تشبه الخسيس بأهل الخميس) للحافظ الذهبي ومنها كتاب: (الاستنكار لهدي التشبه بالكفار) للشيخ أحمد بن الصديق، ومنها كتاب آخر باللغة التركية، وهو يتناول مسألة تحريم تقليد الكفار والتشبه بهم، وقد ألّفه الشيخ عاطف وفي هذا الكتاب أفتى الشيخ عاطف بتحريم ارتداء القُبَّعة؛ لأن أتاتورك -لعنه الله- كان قد أجبر جميع مسلمي تركيا على ارتداء القبعة، وكانت الشرطة في الشوارع تقوم بحملات على الناس كي تقبض على كل من لم يخلع الزي الإسلامي ويلبس القبعة، حتى إنه في إحدى هذه الحملات هجمت الشرطة هجمة واحدة، فرجع الناس إلى المحلات، وأخذوا يختطفون القبعات ويضعونها على رءوسهم كي ينجوا من العقوبة! ودائماً ما يرتبط انحراف المجتمع عن الهدي الإسلامي بتمسك القائمين عليه بهدي الكفار؛ ليسلخونا من هذا الذي أسموه قشراً.
ولما قام أتاتورك بانقلابه الآثم في تركيا، وبعد الانقلاب بسنتين تقريباً حوكم الشيخ عاطف، وكانت جريمته الوحيدة هي تأليف هذا الكتاب الذي فيه تحريم التشبه بالكفار.
وكان من أبرز ما تعرض له هذا الشيخ في هذا الكتاب قضية ارتداء القبعة، وأنه لا يجوز للمسلم أن يرتدي القبعة؛ باعتبار أن هذه القبعة رمز من رموز الكفار وشعار من شعاراتهم كالصليب أو غيره، والمسلم ينبغي ألا يلبسها خاصة إذا استحسنها وقدمها على شعار المسلمين، ومن المعروف أن هذا من شعار الكفار باعتبار أن الكافر لا يسجد ولا يركع، فهم لا يريدون مجرد ارتداء القبعة، بل يريدون رأساً لا يعرف السجود ولا الركوع؛ لأن الذي يلبس القبعة لا يركع ولا يؤمن بالله تبارك وتعالى! فلما مَثُل الشيخ عاطف أمام رئيس محكمة الاستقلال، خاطبه القاضي قائلاً: إنكم أيها الشيوخ مغرقون في السفسطة؛ حيث تزعمون أن الرجل حين يلبس العمامة على زعمكم يكون بذلك مسلماً، فإذا ما خلعها واستحسن القبعة صار فاسقاً أو كافراً؟! فأجاب هذا الشيخ قائلاً: أيها القاضي! انظر إلى هذا العَلَم المرفوع خلفك -وكان في العادة أن يكون خلفه علم تركياً مرفوعاً- استبدل هذا العَلَم بعلم انجلترا مثلاً أو أي دولة من هذه الدول، فإن قبلت وإلا فهذه سفسطة منك، إذ إن هذا قماش وهذا قماش.
لكن ما من شك أن هذا شعار وله دلالة خاصة، فهل يمكن أن يقبل القاضي أو يتنازل ويستبدل علم تركيا المرفوع خلفه بعلم بريطانيا أو فرنسا؟! كلا، لا يمكن، مع أن هذا قماش وهذا قماش! فبُهت القاضي، ولكنه مع ذلك حكم على الشيخ عاطف رحمه الله بالإعدام ظلماً وعدواناً، وأعدم الشيخ بالفعل.
حدثني شاب تركي لقيته منذ حوالى خمس عشرة سنة، وكان على علم ودراية، وهو الذي أخبرني بهذه القصة، قال: إن هذا القاضي مرض مرضاً شديداً كان يصيح منه كالكلاب على حدّ قوله، والعهدة عليه.
أيضاً من المواقف التي تتناول هذا الموضوع: ما قام به أحد الطلاب في إحدى الجامعات في البلاد الإسلامية، حيث قام بارتداء القبعة، فشذ بذلك عن كل المسلمين، فطلب منه المدرس أن يخلع هذه (البرنيطة) ولكن هذا الشاب أبى أن يخلعها، وقال: لا أخلعها إلا بحجة مقنعة تقنعني.
وجاءت الحجة حين قال له أستاذه: يا بني! ليست (البرنيطة) بنفسها شيئاً مذكوراً، ولكنها شعار القوم الذين أذلّوا أمتك وسلبوك حريتك.
ومثل هذا الشعور يظهر حينما نرى بعض الناس يضعون على السيارات أعلام أمريكا أو أعلام بريطانيا، أو يضعون في بعض وسائل الإعلام بكل اعتزاز وفخر شيئاً من هذا، وهؤلاء هم أعداء الإسلام الذين يحاربون ديننا وينكّلون بنا في كل مكان، ومع ذلك نجد الغفلة عن هذا الأصل واحتقار مثل هذه الأمور، وهي عظيمة في الحقيقة وليست هينة.
ويقول الشيخ عبد الله بن الصديق في نفس هذا الموضوع: و (البرنيطة) شعار خاص بغير المسلمين، حتى إن أتاتورك -لعنه الله- حين انسلخ من الإسلام، وأعلن أن تركيا دولة لا دينية، اتخذ (البرنيطة) شعاراً يعرفون به أنهم غير مسلمين؛ حتى يُسلخ المسلمون من وصف الإسلام.
ويقول: وصرّح المالكية بأن اللبس المختص بالكفار كالزنار، وهو حبل يضعه الكافر أو الراهب في وسطه، وهو موجود إلى الآن، و (البرنيطة) يكون لبسه رِدّةً إن فُعِل محبةً أو رغبة فيه.
ولما كان الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله شيخاً للأزهر في عهد حكومة الانقلاب الذي قام به جمال -خيّبه الله- ترك (الطربوش) الذي كان غطاء للرأس عند جمهور المصريين، وأراد أن يتخذ (البرنيطة) بدلاً عنه، واستفتى شيخ الأزهر الشيخ: محمد الخضر حسين - في ذلك فلم يوافقه، لكن الشيخ محمد الخضر حسين رأى في مجلة الشئون الاجتماعية فتوى منشورة مزوّرة عليه أنه وافق على لبس (البرنيطة)، فاحتج على رئيس تحرير المجلة قائلاً: كيف تنسب إلي فتوى لم أقلها؟! فقال له: إنه أَمْرٌ بنشر هذا الخبر! فاستقال الشيخ من منصبه، وكانت الحكومة عازمة على تنفيذ المشروع، لكن أعاقتهم عنه عوامل، ومن أهمها استقالة شيخ الأزهر فجأة، وبقي الشعب المصري منذ ذلك الوقت عاري الرأس، حيث طرح الطربوش فلم يرجع إليه، ووقاه الله لبس (البرنيطة) والحمد لله.
ونحن نرى مثل هذه العبارات لبعض العلماء؛ لأن هذه الأمور لا ينبغي أن يُنظر إليها هذه النظرة الساذجة على أنها قشور، أو أنها أمور مظهرية أو شكلية، وأن الإسلام لا يهتم بهذه الأمور.