للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من وسائل علاج المحسود طلب الاستغسال من العائن والرقية على المصاب]

مما يذكره العلماء في هذا الباب: مسألة الاستغسال، وقد ذكرنا فيما مضى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أن شيئاً يسبق القدر، لسبقته العين)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن العين حق).

وبوب البخاري في صحيحه: باب رقية العين، وذكر حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسترقى من العين).

وعقد الإمام مالك في الموطأ باباً بعنوان: الوضوء من العين، وباباً آخر بعده بعنوان: الرقية من العين، وساق حديث سهل بن حنيف بتمامه فقال: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه) يعني: أراد أن يغتسل في شعب من الشعاب، فنزع جبة كانت عليه (وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد؛ فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء، وفي لفظ آخر: ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة -يعني: التي تخبأ في الخدر- قال: فوعك سهل مكانه واشتد وعكه) وفي بعض الروايات: (فلبط) أي: صرع وزناً ومعنى، أي: لبط سهل مكانه في الحال، واشتد وعكه، (فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر أن سهلاً وعك، وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر بن ربيعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس).

الحديث مرة ثانية: عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أنه سمع أباه يقول: (اغتسل أبي سهل بن حنيف بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر، قال: وكان سهل رجلاً أبيض حسن الجلد، قال: فقال له عامر بن ربيعة: ما رأيت كاليوم ولا جلد عذراء)، وفي بعض الروايات: (ولا جلدة مخبأة قال: فوعك)، وفي رواية: (فلبط سهل مكانه واشتد وعكه، فأتي رسول الله فأخبر أن سهلاً وعك وأنه غير رائح معك يا رسول الله! فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبره سهل بالذي كان من أمر عامر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟!)، وهذا فيه دليل على أن العين قد تقتل، فمصداقاً للحديث الآخر: (إن العين تدخل الرجل القبر، والجمل القدر).

قال: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟ ألا بركت؟!) أي: هلا قلت: بارك الله فيك، أو: اللهم بارك فيه ولا تضره، (إن العين حق، توضأ له، فتوضأ له عامر، فراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس).

وفي رواية: لما بلغه أنه وعك سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل تتهمون له أحداً؟ قالوا: نتهم عامر بن ربيعة، قال: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً فتغيض عليه، وقال: علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! هلا إذا رأيت ما يعجبك بركت؟!) وفي رواية: (علامَ يقتل أحدكم أخاه؟! ألا بركت؟! اغتسل له، فغسل عامر وجهه ويديه، ومرفقيه، وركبتيه، وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صب عليه، فراح سهل مع الناس ليس به بأس)، وهذا هو ما يسمى بالاستغسال، وفي الحديث: (وإن استغسلتم فاغسلوا) فهذه توصية بهذا الاستغسال، فيطلب ممن عرف بأنه عائن، واشتهر عنه ذلك، وإذا اعتقد أنه تعين هذا علاجاً له فعليه أن يفعل ذلك، فيغسل الوجه والكفين، ثم يغسل المرفقين فقط، يعني: نفس المرفق، ولا يدخل فيه الساعد، ويغسل أطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم يصب على من أصابته العين، فيفرغ هذا الماء على المصاب من الخلف.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: فيه: أن العائن إذا عرف يقضى عليه بالاغتسال.

أي: إذا عرف الشخص الذي وقع منه هذا يقضى ويحكم عليه بالاغتسال، لكن ليس الأمر متروك لكل إنسان عقله فيه خفة أن يقابل الناس ويطلب منهم هذا، لكن إذا عرف العائن الذي صدر منه هذا الشر فهو الذي يُطلب منه الاستغسال.

وفيه أيضاً: أن الاستغسال من النشرة النافعة، وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد؛ لأن هذا لما مدح أخاه بهذا لم يتمن زوال النعمة عنه، ولكنه أعجب، ولم يبرك حين رآه.

يقول الحافظ: وأن العين تكون مع الإعجاب ولو بغير حسد، ولو من الرجل المحب ومن الرجل الصالح، وأن الذي يعجبه الشيء ينبغي أن يبادر إلى الدعاء للذي يعجبه بالبركة، ويكون ذلك رقية منه.

أيضاً قوله: (وإذا استغسلتم فاغسلوا) فيه إشارة إلى أن الاغتسال لهذا الأمر كان معلوماً وشائعاً بينهم، فأمرهم ألا يمتنعوا منه إذا أريد منهم، فمتى خشي الهلاك وكان اغتسال العائن مما جرت العادة بالشفاء به، فإنه يتعين، وقاسوه على أنه يجبر الإنسان على بذل الطعام للمضطر، قالوا: وهذا أولى من بذل الطعام للمضطر، يعني: إذا تعين هلاكه.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: هذه الكيفية لا ينتفع بها من أنكرها، ولا من سخر منها، ولا من شك فيها، ولا من فعلها مجرباً غير معتقد فيها.

وهذا كما يؤخذ ترياق سم الحية من لحمها، فهناك بعض الأدوية تؤخذ من الداء نفسه، وكأن هذا الاغتسال بهذا الماء فيه إطفاء لشعلة نار الحسد في نفس هذا الحاسد الخبيث.

قال المازري رحمه الله: هذا المعنى مما لا يمكن تعليله ومعرفة وجهه من جهة العقل، فلا يرد لكونه لا يعقل معناه، ربما لا يستطيع أن يدرك ما هو المعنى.

يعني: ما هو سر العلاج بمثل هذا الاستغسال، فهذا لا يستطيع العقل أن يدركه، ولا ينبغي أن يرد لمجرد أن العقل لا يدرك أو لا يعقل معناه.

قال الإمام ابن العربي رحمه الله تعالى: إن توقف فيه متسرع -إن توقف في هذا النوع من العلاج وهو الاستغسال- قلنا له: الله ورسوله أعلم، فقد عبرته التجربة، وصدقته المعاينة، وإن توقف فيه المتفلسف فالرد عليه أظهر؛ أن عنده أن الأدوية تفعل بقواها، وقد تفعل بمعنى لا يدرك، ويسمون هذا بخواص الأدوية.

فهذا أولى أن يثبت من علم الوحي الشريف.