أيضاً من عجائب ما قاله الغزالي: قوله بأفضلية السماع -سماع الغناء- على القرآن لقلب المبتدئ.
يقول: فإن سأل سائل: إن كان سماع القرآن مفيداً بالوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين؟ قال الغزالي: فاعلم أن السماع أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه.
ثم ذكر الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع، وأن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب.
وأطال في ذكر الأوجه إلى أن ختم بالوجه السابع فقال فيه: السابع: أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته، وهو حق لا تطيقه البشرية؛ لأنه غير مخلوق، فلا تطيقه الصفات المخلوقة، والألحان الطيبة مناسبة للطباع، فنسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، فما دامت البشرية باقية، ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى التصاعد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود.
وهذا كلام عجيب! فهل مجرد وجود التلذذ بهذه الأنغام والتمتع يبيح الفعل؟! إذاً لماذا لا نستحل كثيراً من المحرمات التي فيها مثل هذا التلذذ؟! ثم يحكي الغزالي قصة رجل فيقول: وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه، فلما دخلت الري كنت أسأل عنه، فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق؟ قال أبو الحسن: فلم أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجده، وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رجل وبيده مصحف يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه، فأقبل علي وقال لي: أتحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: هات، قال: فأنشأت أقول: رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني كأني بكم والليت أفضل قولكم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته، وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني! تلوم أهل الري يقولون: يوسف زنديق! هأنا من صلاة الغداة أقرأ المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين.
أي: أنك استغربت من الناس الذي كنت تسألهم في الطريق وكلما تسأل واحداً: أين فلان؟ فيقول لك: الزنديق ماذا تريد منه؟! يقول: كيف تستغرب من ذلك وأنا جالس أقرأ القرآن من صلاة الفجر إلى هذا الوقت وعيني لم تقطر منها قطرة، وقد قامت علي القيامة بسماع هذين البيتين من الشعر! ويعلق الغزالي على هذه القصة بقوله: فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى، فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن! ويستدل الغزالي على إباحة السماع الصوفي بقوله تعالى:{يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}[فاطر:١] فيقول: إنه الصوت الحسن.