[أحداث في مرض وفاته صلى الله عليه وسلم]
وكان بدء شكواه ما رواه ابن إسحاق وابن سعد عن أبي مويهبة -وهو مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: (بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل فقال: يا أبا مويهبة قد أمرت أن أستغفر لأهل هذا البقيع فانطلق معي، فانطلقت معه، فلما وقفنا عليهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهنأ لكم، لا أصبحتم فيما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن مثل قطع الليل المظلم يتبع آخرها أولاها، الآخرة شر من الأولى، ثم أقبل عليّ، فقال: إني قد أعطيت مفاتيح خزائن الأرض والخلد فيها فخيرت بين أن أمتلك مفاتيح خزائن الأرض والخلود في هذه الأرض والجنة وبين لقاء ربي والجنة.
فقلت: بأبي أنت وأمي فخذ مفاتيح خزائن الدنيا وتخلد فيها ثم الجنة! قال: لا -والله- يا أبا مويهبة، قد اخترت لقاء ربي والجنة، ثم استغفر لأهل البقيع ثم انصرف).
فابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه الذي قبض فيه، وكان أول وجعه صداعاً شديداً في رأسه، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (إنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من البقيع استقبلته وهي تقول: وارأساه -كانت رضي الله عنها تشتكي رأسها- فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنا -والله- يا عائشة وارأساه)، وكان بدء مرضه ذلك في أواخر صفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وكانت عائشة رضي الله عنها ترقيه خلال ذلك بمعوذات من القرآن.
روى البخاري ومسلم عن عروة رضي الله عنه أن عائشة رضي الله عنها أخبرته (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات) وهذا دليل من أدلة مشروعية الرقية.
والفرق بين الرقية والدعاء أن الرقية يكون فيها نفث في اليد ونفح على الجسد، تقول رضي الله عنها: (فكان إذا اشتكى نفث على نفسه بالمعوذات، فلما اشتكى وجعه الذي توفي فيه لم يطق صلى الله عليه وسلم ذلك، فطفقت أنفث على نفسه بالمعوذات وأمسح بيد النبي صلى الله عليه وسلم عنه)، فشعرت نساؤه صلى الله عليه وسلم برغبته في أن يمرض في بيت عائشة رضي الله عنها لما يعلمن من محبته لها وارتياحه إليها، فأذنَّ له في ذلك، فخرج إلى بيتها من عند ميمونة يتوكأ على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، وفي بيت عائشة رضي الله عنها اشتد به وجعه، وكان قد شعر بقلق أصحابه وحزنهم عليه فقال: (أهريقوا علي من سبع قرب لم تحلل أوكيتهن لعلي أعهد إلى الناس) وهذا يشبه الكمادات بالماء البارد حتى تخف الحمى فيستطيع أن ينهض إلى الناس ويعهد إليهم ويوصيهم، قالت عائشة رضي الله عنها: (فأجلسناه في مخضب ثم طفقنا نصب عليه من تلك القرب، حتى طفق يشير إلينا بيده أن: قد فعلتن.
ثم خرج صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه فجلس على المنبر، فكان أول ما تكلم به أن صلى على أصحاب أحد واستغفر لهم، ثم قال: عبد خيره الله بين أن يأتيه زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده، فبكى أبو بكر رضي الله عنه؛ لأنه علم ما يقصده النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك، وناداه قائلاً: فديناك بآبائنا وأمهاتنا.
فقال صلى الله عليه وسلم: على رسلك يا أبا بكر، ثم قال: أيها الناس! إن أمن الناس علي في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً، لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أخوة الإسلام) لأن مرتبة الخلة لا تنبغي إلا لله سبحانه وتعالى، ولأن الخلة أعلى درجات المحبة، كما قال: الشاعر: قد تخللت مسلك الروح مني وبها تمنى الخليل خليلاً أي: بلغت المحبة إلى حيث تبلغ الروح في جسد الإنسان، فهذه المرتبة من المحبة لا تليق إلا بالله سبحانه وتعالى، ولو كانت جائزة لكان أولى الناس بها أبا بكر رضي الله عنه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن أمن الناس عليّ في ماله وصحبته أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام، لا تبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر) والخوخة هي باب صغير بين البيتين، فأمر بسد كل باب يؤدي إلى المسجد ما عدا الباب الذي يؤدي إلى بيت أبي بكر، ثم قال: (وإني فرط لكم -يعني: أنا أسبقكم إلى الله سبحانه وتعالى- وأنا شهيد عليكم، وإني -والله- لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني -والله- ما أخاف أن تشركوا من بعدي، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تنافسوا فيها)، وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته ثم اشتد به وجعه وثقل عليه مرضه، تقول عائشة رضي الله عنها: (قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه: ادعي لي أبا بكر أباك وأخاك حتى أكتب كتاباً، فإني أخاف أن يتمنى متمن ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر)، وهذا رواه البخاري ومسلم واللفظ لـ مسلم.
قوله: (ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر) هذا نص من النبي صلى الله عليه وسلم على إمامة أبي بكر، وأنه أولى الصحابة بالإمامة، ثم تلا ذلك إجماع الصحابة رضي الله عنهم.
وجاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (لما اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم المرض قال لرجال كانوا في البيت: هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده، فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا كتاباً يكتب لكم، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قوموا) رواه البخاري.
إذاً: الخلاف والمجادلة يرفعان البركة دائماً، فلما رآهم اختلفوا أمرهم بأن يقوموا وأن ينصرفوا، وكذلك لما تخاصم رجلان وقد علم من الوحي بتعيين ليلة القدر، فلما تخاصم هذان الرجلان رفع علم ليلة القدر، فبسبب الجدل والاختلاف والتنازع ترفع البركة وتمحق.