[نماذج من أدب الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم]
إذا رجعنا إلى سلوك الصحابة رضي الله تعالى عنهم وأدبهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنرى من ذلك نماذج عظيمة وكبيرة، حتى إن الكافر الذي أوفده المشركون في صلح الحديبية حينما رجع كان من أشد ما أثر فيه أدب الصحابة رضي الله تعالى عنهم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى إنه قال لإخوانه من المشركين: لقد وفدت على قيصر وعلى كسرى فما وجدت أحداً يعظم أحداً مثلما يعظم أصحاب محمد -صلى الله عليه وسلم- محمداً، ما تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، ولا توضأ وضوءاً إلا تقاتلوا عليه يعني أنهم كانوا يتبركون بوضوء النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
قال رويم بن أحمد البغدادي لابنه: يا بني! اجعل عملك ملحاًًَ وأدبك دقيقاً.
قال له هذا مع أن المعروف أن نسبة الملح تكون قليلة حتى يصلح الطعام، فقوله له: اجعل عملك ملحاً يعني: قليلاً.
لكن اجعل أدبك هو الدقيق، قال: اجعل عملك ملحاً، وأدبك دقيقاً.
يأمره بالاستكثار من الأدب، حتى تكون نسبة الأدب في سلوكه من حيث الكثرة كنسبة الدقيق إلى الملح الذي يوضع فيه، وكثير من الأدب مع قليل من العمل الصالح خير من كثير من العمل مع قلة الأدب.
وقال ابن المبارك رحمه الله تعالى: إذا وصف لي رجل له علم الأولين والآخرين لا أتأسف على فوت لقائه، وإذا سمعت رجلاً له أدب النفس أتمنى لقاءه، وأتأسف على فوته.
وقيل للعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه: أنت أكبر أم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: (هو أكبر مني، وأنا أسن منه) حاله كما قال الشاعر: أدب كمثل الماء لو أفرغته يوماً لسال كما يسيل الماء وقيل لـ أبي وائل: أيكما أكبر أنت أم الربيع بن خثيم؟ قال: أنا أكبر منه سناً وهو أكبر مني عقلاً.
ودخل عروة بن مسعود الثقفي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية، فجعل يحدثه ويشير بيده إليه حتى تمس لحيته، والمغيرة واقف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده السيف، فكان عروة بن مسعود يسيء الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث إنه كان يشير إليه بيده، حتى يلمس لحية الرسول عليه الصلاة والسلام، وكان المغيرة رضي الله تعالى عنه واقفاً على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده السيف، فكلما أهوى أو أشار بيده إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام يضرب يده بالسيف ويقول له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أو: اقبض يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن لا ترجع إليك.
يهدده أن يقطع يده إذا امتدت ثانية إلى لحية رسول الله صلى الله وعليه وسلم وهو يكلمه، فقبض عروة يده.
ويكفي في ذم سوء الأدب أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم في الأعراب الجفاة الذين نادوا رسول الله صلى الله عليه من وراء الحجرات -وسورة الحجرات تسمى سورة الآداب؛ لما اشتملت عليه من الآداب الشرعية- فوصف الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين لم يراعوا الأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات:٤] فنفى عنهم العقل لعدم مراعاتهم الأدب مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم.