هناك اختلاف بين العلماء في حكم الوفاء بالوعد المالي.
فلو وعدت شخصاً لك عليه دين، فقلت له: أعدك إن شاء الله أني سأحط عنك -أي: سأضع- النصف، فهذا وعد مالي، أو تقول: اهدم بيتك وابنيه من جديد وأنا سأعطيك المبلغ الفلاني، أو تقول: سأقرضك في الشهر القادم كذا، والوعد دائماً يكون في المستقبل.
ونحتاج لبيان الاصطلاح المستعمل هنا وفي مواضع أخرى من القضايا الفقهية، وهو: الواجب ديانةً والواجب قضاءً؛ فلو أن واحداً تخاصم مع واحد على مال مثلاً، وتحاكموا إلى القاضي، فالقاضي بعد اطلاعه على الوثائق والشهود وغير ذلك من الأمور يحكم بما يظهر له، لكن إن كان أحدهما ألحن بقوله، وأدلى بحجج قوية، والآخر كانت عنده حجة لكن ما عنده خبرة، فحكم القاضي وقال: إن هذا المال من حق فلان، وهو ظالم في الحقيقة، لكن القاضي حكم بما يظهر له، فنقول: إن تنفيذ حكم القاضي الشرعي واجب قضاءً في أحكام الدنيا، لكنه لا يعني أنه مقبول ديانةً، وأما صاحب هذا الدين فالأمر بينه وبين الله فمن يعلم أن هذا المال لا يحق له فهو حرام عليه حتى لو حكم له القاضي به، فينبغي أن يتدين في إعطائه هذا المال لصاحبه، حتى لو حكم له القاضي بالظاهر، وهل القاضي هنا يوصف بالظلم؟ لا؛ لأنه يتعامل مع ما يظهر له، فهذا يحلف وهذا يحلف، وهذا معه شهود وهذا معه شهود، لكن انتهت القضية بأنه حكم بما يظهر.
فالواجب عليك ديانةً بينك وبين الله، خشية الحساب في اليوم الآخر؛ أن تفي بوعدك.
أما الواجب قضاءً فيكون من حق القاضي أن يتدخل فيه ويلزم به، وينفذه ويلزم الناس به؛ فهذا الواجب قضاءً.
مثلاً: شخص شهدت له البينة وكان كاذباً، أو شهد له ظاهر الحال وكان الواقع خلافه، مثل بعض قضايا الطلاق، فأحياناً تختلف النية المكنونة عن الظاهر المشهود، وهذه نقطة خطيرة جداً، فقد يطلق الرجل زوجته وهو ينوي الطلاق فعلاً، ثم يذهب إلى المفتي ويخدعه، فيسأله المفتي عن نيته، فيقول له: ما كنت أنوي الطلاق، وهو يعلم أن هذه المعلومة إذا تغيرت سيتغير الحكم؛ فيبيحها المفتي له، وهذا ليس في الطلاق الصريح إنما في طلاق الكناية، والناس يقعون في تخليط عجيب، يقول مثلاً لزوجته: هي طالق، ثم يقول: ما كنت ناوياً الطلاق! لماذا؟ لأن هناك من يلقنه هذا الكلام، وتعود الذين لا يحققون هذه المسائل أن يسألوه: ماذا كانت نيتك؟ حتى لو كان طلاقاً صريحاً، وهو لا يسأل عن النية، ولو رفعت القضية للقاضي وقد قال: هي طالق، فلن يسأل عن النية، لأن النية إنما تكون في طلاق الكناية، كأن تقول لها مثلاً: اذهبي عند أهلك، أو غير ذلك من العبارات غير الصريحة، لكن يحتمل أنه أراد الطلاق، فإذا كان الطلاق بطريق الكناية فنسأله: هل كنت تنوي الطلاق أم لا؟ فإذا كان ينويه فبالفعل يقع طلاقاً، أما إذا كان لم ينو فهذا لا يقع طلاقاً، ففي هذه الحالة لو أن الرجل كذب وقال: ما كنت أنوي الطلاق، وهو بالفعل كان ينويه، فالقاضي سيلزم هذه الزوجة قضاءً أنها ترجع إليه، حتى لو كان طلقها مرتين من قبل، وكانت هذه هي الثالثة، لكنه لا يجوز للزوج ديانة أن يعود إلى هذه الزوجة إذا كانت هذه هي الثالثة، وهو إنما كذب من أجل ألا يوقعها.
هذه مجرد أمثلة لتقريب المعنى، وكلها تدل على أن هناك فرقاً بين الواجب ديانة والواجب قضاءً.