[الحكمة والغاية من وجوب نفقة الزوجة على الزوج ورفع بعض التكاليف عنها]
وفّر الإسلام للمرأة كل ما يمكن من الأسباب والظروف التي تؤهلها وتمكنها من القيام بالوظيفة الأساسية بعد عبادة الله سبحانه وتعالى، ألا وهي تربية الأولاد وحسن التبعل للزوج، فرفع عنها مئونة العيش والاكتساب، فلا يجب عليها النفقة والاكتساب والشغل والعمل؛ لأنه فرض على الزوج أن ينفق عليها وعلى أولادها، فلم تعد لها حاجة إلى العمل خارج البيت؛ لأن العمل يقصد به الكسب وتحصيل الرزق، وكفيت هي ذلك لقاء أنها منصرفة ومتفرغة لعمل خطير جليل هو تربية الأولاد في البيت.
كذلك رفع الإسلام عنها إيجاب بعض ما فرضه على الرجال تحقيقاً للغرض ذاته؛ لأن المرأة عبارة عن موظفة متفرغة، وفي الحقيقة هي موظفة كثيراً ما يهدر حقها، وهي ليس لها معاشات ولا مرتبات، وأحياناً كلمة الشكر لا توجد إن لم تكن الأذية والاضطهاد.
فالمرأة تعمل أربعاً وعشرين ساعة في اليوم والليلة يومياً، فهي تحت أمر أي واحد في البيت، الطفل الصغير ليس له مواعيد، الرضيع يوقظها في أي ساعة من ليل أو نهار، إن كانت نائمة فتستيقظ كي تغذيه وكي ترضعه، وتنظفه وترعاه، بينما الأب قد يتأفف من فعل عشر معشار ما تفعله المرأة، لكن انظر إلى الرحمة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في بيتها، فوفر لها الشرع كل ما أمكن، وذلك لقدسية وظيفتها وخطورة وظيفتها، ولا يصرح لها بالخروج من مكان العمل إلا في أحوال استثنائية، فالأصل أن تظل في مكان العمل مرابطة ليل نهار، ومكان العمل هذا لا يستغني أبداً عنها، ولا يطيق غيابها، وتختل الأمور إذا غابت عنه ساعة من النهار، فلذلك الشرع لأجل هذه الوظيفة الخطيرة رفع عنها كثيراً من الواجبات حتى تظل عاملة في مكان عملها، فهو وفر لها الوقت الكافي للانصراف إلى مهمتها.
فمثلاً: الجهاد في سبيل الله ليس واجباً عليها، فوجوبه على الرجل.
والصلاة في المسجد واجبة على الرجال وليست واجبةً على المرأة.
وصلاة الجمعة غير واجبة على المرأة، إلى غير ذلك من الأحكام التي تدل على أن الإسلام يرغب المرأة في بقائها في بيتها، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:٣٣]، وفي الحديث: (أما إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحوائجكن) يعني: عند الحاجة إلى الخروج.
فالمرأة لها أن تخرج من مكان عملها عند الحاجة، كأن تخرج للعلاج، أو لصلة الرحم، أو لدروس العلم، لكن ليس هذا هو الأصل في المرأة تماماً كما يخرج الرجل.
فأعداء الإسلام دائماً يزيفون الحقائق، وذلك بتسمية الأسماء بغير اسمها، عن طريق تسمية الأسماء بأسماء منفرة، أو أسماء ملبسة، فهم يصفون كل ملتزم بدينه بأنه مفرق أو رجعي أو متخلف أو أصولي أو إرهابي، وغير ذلك من الأسماء.
كذلك في هذه القضية نفس الشيء، فيقولون عمن خرجت للعمل: هي المرأة العاملة، ويكتب في البطاقة (تعمل)، أما التي تعمل في بيتها فيكتبون في البطاقة (لا تعمل) وبالتالي يسمونها (ربة بيت) إذاً ربة البيت حسب مفهوم هؤلاء هي التي لا تعمل، وهذا من التدليس الذي أشار إليه بعض العلماء بقوله: تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابير مدحًا وذمًا وما جاوزت وصفهما والحق قد يعتريه سوء تعبير فيخرجون المعاني القبيحة في ألفاظ مقبولة، وبالعكس، ويطلقون على الحق الأسماء المنفرة، فهذه امرأة عاملة، وهذه امرأة عاطلة؛ لأنها ربة بيت، ولأنها متفرغة لرعاية زوجها وأولادها، فهذه مغالطة مكشوفة.
والمرأة في القديم في الحقيقة كان لها عدة وظائف، فالمرأة خياطة، وهي تخدم البيت وتنظفه، والمرأة ممرضة تمارس التمريض وتعالج، وتسهر على راحة أي عضو من أعضاء الأسرة، فهي في حالة رباط دائم ليل نهار، تخدم الجميع، تسهر على المريض، تعد الطعام للجائع، تذاكر لأبنائها التلاميذ، ومع ذلك لا تنتظر جزاءً، وربما حرمت من كلمة الشكر ومن العرفان.
وكانت نهضة المؤمنين أو المسلمين في القرون الأولى سببها المرأة، فنحن ننظر إلى النتائج ونغفل الأسباب، فنفخر بـ الشافعي، ونفخر بـ سفيان الثوري، ونفخر بالصحابة ونفخر بالمجاهدين والعلماء والمجددين وننسى من كان وراء هؤلاء.
فهل هؤلاء خرجوا من فراغ؟ لا، بل هؤلاء كان وراءهم من يربيهم، كان وراءهم من يتعاهدهم منذ الصغر وهم أطفال، إنها الأم بصفة أساسية، وكذلك إذا قدر غياب الأب بموت أو غير ذلك كسفر من الأسفار فالأم هي التي تتولى زمام التربية.
وصحيح أننا نتحدث عن عمر بن عبد العزيز وشخصية عمر بن عبد العزيز، لكن لا ينبغي أن نهمل التربية التي ترباها عمر بن عبد العزيز، كذلك حينما نتحدث عن الإمام الشافعي -وما أدراك ما الشافعي رحمه الله تعالى- فليس من الإنصاف أن نهمل من صنع الشافعي، الذي صنع الشافعي ورباه هي أمه التي اجتهدت جداً في تربيته ورعايته ودفعه إلى العلم.
فينبغي حينما نتحدث عن المرأة أن نتذكر الأعمال المهمة الجليلة التي تدور خلف الخدور، أن نتذكر ذلك النشاط المكثف الذي يحصل من المرأة في تربية الأولاد وتغذيتهم بالعقيدة الإسلامية وحمياتهم بها، لا ينبغي أن نغفله ونهمله حتى نعطي المرأة حقها، ونعطيها الآن نفس الدور ونفس الأهمية ونشعر بخطورة موقعها.
فوثب المسلمون الأوائل وثبةً ملئوا بها الأرض قوة وبأساً، وفطنةً وعلماً، فقادوا الأمم، وهابهم الملوك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشرعهم ولغتهم وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب وتتقلب بها الألسنة، بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام، ولا قيام، ولا علم، ولا شريعة.
فمن أين تخرج الجيل الأول؟ في أي المدارس درسوا؟ ومن أي المعاهد خرجوا؟ لقد قطع المسلمون تلك المرحلة التي شهد لها الدهر ووجم لنوعيتها التاريخ ولم يبنوا معهداً ولم يبنوا جامعة، بل كانت دورهم وقصورهم معاهد ومدارس، وتولى أمر هذه المدارس التي تربى فيها الجيل الأول أمهات صدق، أقامهن الله على نشئه، واستخلفهن على صنائعه، وائتمنهن على دعاة حقه ورعاة خلقه، فكن أقوم خلفائه بواجبه، وأثبتهن على عهده، وأمهرهن للفادح الشديد من أمره.
لقد كان الله سبحانه وتعالى أبر بهذه الأجيال من أن يخرجهم مخرجاً سيئاً.