للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[أهمية التجرد من الهوى]

لا يصح تقويم أي رجل من الرجال أو مؤلف من المؤلفات بمقررات سابقة، فلا يقبل الإنسان على قراءة البحث وهو يحمل فكرة في ذهنه، وغير مستعد لأن يتنازل عنها أو تهتز عنده، فهو يبيت خلفيات معينة، ومن خلالها ينظر لهذا البحث، فهذا يجعل الإنسان لا ينظر بتجرد إلى البحث، بل يميل عن الحق ميلاً واضحاً، فهو لا ينظر إلى المرء بمجموع أعماله، بل يتغاضى عن المحاسن، ولا يقع بين عينيه إلا الهفوات، بل قد يعطيها أكثر مما تستحق من النقد والتجريح.

فلذا كان التجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب، ومثال عدم التجرد: حينما أسلم عبد الله بن سلام رضي الله عنه، لقي النبي صلى الله عليه وسلم اليهود فقال لهم: (أي رجل عبد الله بن سلام فيكم؟ فقالوا: خيرنا وابن خيرنا، وأعلمنا وابن أعلمنا، فقال: ما تقولون فيه لو أنه دخل في دين الإسلام؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك! فخرج عليهم عبد الله بن سلام وقال لهم: يا معشر اليهود! أنتم تعلمون أن هذا هو النبي الذي جاءت صفته في التوراة، وإني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: هو شرنا وابن شرنا، وأجهلنا وابن أجهلنا!) في الحال انقلبت هذه الموازين؛ لأنهم مقيمون على الباطل ولا يريدون أن يتحولوا عنه، فالتجرد في التقويم من الأسباب المهمة التي تجعل الحكم صواباً أو قريباً من الصواب.

يقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:١٣٥] فالهوى من الأنواع الخفية التي تتسلل إلى قلب المرء تدريجياً حتى تسيطر عليه من حيث لا يشعر، فهو باب عريض من أبواب الضلال يجثم على صدر الإنسان، ولا يولد إلا الجور والظلم في أحكام المرء، يقول تبارك وتعالى مخاطباً نبيه داود عليه السلام: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:٢٦]، ويقول صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكتت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة مادامت السماوات والأرض، وآخر أسود مرباداً كالكوز مجخياً، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه) والقرآن دائماً يأتي بالوحي في مقابلة الهوى كما في هذه الآية: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى} [ص:٢٦].

ويقول أيضاً: {وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:١١٩]، ويقول عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص:٥٠]، ويقول تبارك وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:٣ - ٤]، لذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يسمون أهل البدع والتفرق الذين يخالفون الكتاب والسنة: أهل الأهواء؛ لأنهم قبلوا ما أحبوه، وردوا ما أبغضوه بأهوائهم بغير هدىً من الله.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وصاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه، فلا يحب لحب الله ورسوله في ذلك، ولا يرضى لرضى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يغضب لغضب الله ورسوله، بل يرضى إذا حصل ما يرضاه بهواه، ويغضب إذا ما حصل ما يغضب له بهواه، ويكون مع ذلك معه شبهة دين: أن الذي يرضى له ويغضب له أنه السنة، وأنه الحق وهو الدين، فإذا قدر أن الذي معه هو الحق المحض لدين الإسلام، ولم يكن قصده أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، بل قصده الحمية لنفسه وطائفته، أو الرياء ليعظم هو ويثنى عليه، أو فعل ذلك شجاعة؛ فليس مجاهداً في سبيل الله.

يعني: أنه ممكن أن يوافق الحق ويتحمس له، لا لأن البحث المتجرد أدى إلى أن هذا حق، لكن لأن الطائفة التي ينتمي إليها يقولون بهذا القول، ولأن من يحيطون به يقولون بهذا القول، أو ينتصر للحق ليثنى عليه به، ولا يقول ذلك خالصاً لله بل لغرض من الدنيا، فهذا ليس مجاهداً في سبيل الله، ولا يفعل هذا لله، لكن يرى الحمية لطائفته التي ينتمي إليها، أو الحزب الذي ينتمي إليه، أو ليقال عنه: شجاع أو جريء، أو عالم، أو لينال غرضاً من الدنيا؛ فهذا ليس عاملاً لله، وليس مجاهداً في سبيل الله، وإن كان يدافع عن حق، فكيف إذا كان الذي يدعي الحق والسنة هو نظيره أيضاً معه حق وباطل وسنة وبدعة، ومع خصمه حق وباطل وسنة وبدعة، فالمقصود: أن التجرد بالقول والعمل وسلامة القصد، مقصد مهم في تقويم الرجال وأعمالهم، فينبغي أن يقصد بالبحث أو الكلام وجه الله عز وجل، والنصيحة للمسلمين، كما قال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:٥].

وينبه شيخ الإسلام أيضاً تنبيهاً مهماً جداً إلى أمر النية في ذلك فيقول رحمه الله: وهكذا الرد على أهل البدع من الرافضة وغيرهم، إن لم يقصد منه بيان الحق، وهدي الخلق ورحمتهم والإحسان إليهم، لم يكن عملهم صالحاً، وإذا غلظ في ذم بدعة ومعصية كان قصده بيان ما فيها من الفساد ليحذرها العباد، كما في نصوص الوعيد وغيرها، وقد يهجر الرجل عقوبةً وتعزيراً، والمقصود بذلك ردعه وردع أمثاله للرحمة والإحسان لا للتشفي والانتقام.

فالهجرة المقصود منها معالجة هذا الشخص، وزجره عن المعصية أو الباطل أو البدع، وليس المقصود منها التشفي منه، وإنما المقصود الإحسان إليه بهجره لينبذ هذا الضلال، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه الثلاثة الذين خلفوا لما جاء المتخلفون عن الغزاة يعتذرون ويحلفون وكانوا يكذبون، وهؤلاء الثلاثة صدقوا وعوقبوا بالهجر، ثم تاب الله عليهم ببركة الصدق.

وقال الإمام المحقق ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى: وعلى المتكلم في هذا الباب وغيره أن يكون مصدر كلامه عن العلم بالحق، وغايته النصيحة لله ولكتابه ولرسوله ولإخوانه المسلمين، وإن جعل الحق تبعاً للهوى فسد القلب والعمل والحال والطريق، قال تعالى: {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون:٧١]، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به).

فالعلم والعدل أصل كل خير، والظلم والجهل أصل كل شر، والله تبارك وتعالى أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، وأمره أن يعدل بين الطوائف ولا يتبع هوى أحد منهم، فقال سبحانه: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى:١٥].

يقول الإمام الفذ ابن ناصر الدين الدمشقي رحمه الله تعالى: هيهات هيهات؛ إن في مجال الكلام في الرجال عقبات، مرتقيها على خطر، ومرتقبها هوى لا منجى له من الإثم ولا وزر، فلو حاسب نفسه الرامي أخاه ما السبب الذي هاج ذلك، لتحقق أنه الهوى الذي صاحبه هالك.

وقديماً كان سلفنا الكرام رضي الله عنهم يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه.