للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[استئذان الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم]

ذهب الجمهور إلى وجوب أمر الصغير المميز بالاستئذان قبل الدخول في الأوقات الثلاثة، فهو أمر للآباء أن يأمروا الأبناء، لكن هل هو واجب على الأطفال الصغار؟ لا؛ لأن الطفل غير مكلف، فلا يجب عليه هذا الحكم، وإنما الواجب أن الأب يربي الطفل ويعوده على هذه الأمور، وهذا من روعة الشريعة الإسلامية، وكيف أنها لم تترك شيئاً مما يحتاجه الناس إلا وقد عالجته، لكنه يخفى على من يخفى، ويظهر لمن يظهر، فيجب على الولي أن يأمر الصغير المميز بالاستئذان، والمميز: هو الذي يقدر على أن يصف ما يراه بشدة، وكذلك يستطيع أن يميز مثلاً بين العبادة وبين اللعب.

أما غير المميز فلا يدخل في هذا الحكم، والآية الكريمة لم تذكر قيد التمييز، وإنما هو كلام لبعض الفقهاء، وعدم وجود فيد التمييز له حكمة عظيمة جداً من الناحية النفسية؛ لأن الطفل حتى قبل سن التمييز يجب أن تحفظ عينه عن أن يرى أشياء لا يحسن أن يراها؛ لأنها قد يكون لها تأثير سيئ جداً فيما بعد، والآية المشار إليها هي قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ} [النور:٥٨]، فالبالغون من الأولاد أو البنات أو الأقارب في البيت، لا بد أن يستأذنوا في أي حال من الأحوال، وكذلك ملك اليمين من العبيد والإماء، وكذلك الأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، فهؤلاء أيضاً يستأذنون، لكن في ثلاثة أوقات، وهذا من تيسير الشريعة، فهم كما قال الله تعالى: {طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ} [النور:٥٨]، فتراهم يتحركون في البيت بكثرة، فيخدمون مثلاً في البيت، أو يأتون بأشياء، ويدخل أحدهم ويخرج ويتصرف بحريته في البيت، فالشريعة هنا راعت حاجة الناس، ويسرت عليهم في هذا الأمر، إلا في ثلاثة أوقات فلا بد أن يدرب الأولاد على عملية الاستئذان، وهذه الثلاثة الأوقات سماها الله سبحانه وتعالى ثلاث عورات، وهذه الأحكام لا يمكن أن تجدها في شريعة من الشرائع على الإطلاق سوى هذه الشريعة الإلهية الحقة: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:١٤].

والتساهل في هذه الأمور له عواقب من أسوأ ما يكون، فلولا أهمية هذه المسألة ما أنزل الله فيها وحياً يتلى في المحاريب إلى أن يأتي أمر الله عز وجل.

فيقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ ثَلاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٨]، عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه كان إذا بلغ بعض ولده الحلم عزله فلم يدخل عليه إلا بإذن.

وقال القرطبي رحمه الله: وكان أنس بن مالك دون البلوغ، لكنه كان يستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك الصحابة مع أبنائهم وغلمانهم رضي الله تعالى عنهم.

وقد جرى عرف الناس على التحفظ والتحرز في غير الأوقات الثلاثة، فلا حرج من دخول الصغار بدون إذن حينئذ، وذلك لأنهم من الطوافين الذين يكثر دخولهم وخروجهم، ولا يجد الناس بداً من ذلك؛ لأن في الاستئذان حينئذ حرجاً عند كل دخول وخروج، أما إذا بلغ الأطفال الحلم فإنهم يدخلون في حكم الأجانب، وعليهم كلما أرادوا الدخول أن يستأذنوا كما يستأذن المحارم؛ لقول الله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور:٥٩].

فهذا التأديب الإسلامي الرفيع الراقي أمر يغفله الكثيرون في حياتهم المنزلية، مستهينين بما ينشأ عن التفريط فيه من صدمات نفسية، وانحرافات سلوكية، ظانين أن الصغار قبل البلوغ لا يتنبهون لهذه المشاهد، في حين يقرر علماء التربية وعلماء النفس: أن وقوع عين الطفل على شيء من هذه العورات، أو اطلاعه على هاتيك الأحوال، قد يترتب عليه معاناة نفسية، واضطرابات سلوكية لا تحمد عقباها، فتحصل له صدمة إذا وقعت عينه على ما لا ينبغي أن يطلع عليه، فالحرمة بين الأبوين وبين الأبناء لا بد أن يحافظ عليها صيانة لهذا الجانب؛ لأن الأولاد يضعون نوعاً من القداسة للأب والأم، فالتهاون في هذه الأمور قد يخدش هذا الجانب، ويصدم الأطفال.

فهذه الأمور تلفتنا إلى ضرورة حفظ تلك الأعين البريئة من كل ما يلوث فطرتها النقية، ويجني على صحتها النفسية، ويهدد استقامتها الخلقية، سواء في ذلك داخل البيت أو خارجه، وسواء في ذلك أوقات العورات الثلاث أو في غيرها، أي: أن هذه الآية تلفت نظرنا إلى وجوب حفظ حواس الأطفال، وحفظ عيونهم من أن يقعوا على ما لا ينبغي أن يطلعوا عليه، وليس هذا فقط في الثلاث عورات، أو في البيوت، فالمفروض حمايتهم في كل مكان، فقد يوجد التفلت والتسيب في بعض البيوت، حيث يحصل تساهل قبيح، بل إفراط مشين في كشف الأبدان والأحوال التي سماها القرآن الكريم عورات، فما دامت عورة فيجب أن تستر، ويستقبح كشفها أمام الصغار، فبعض الناس يتساهل في هذا بحجة أن الصغار لا يفهمون، ناهيك عما يعرض من مشاهد مماثلة لها في التلفاز أو غيره، فكل ذلك مما يناقض الحكم التشريعية السامية التي ترمي إلى حماية هؤلاء الأطفال من التنبيه المبكر للغرائز، وتعكير صفو الفطرة، وانحراف السلوك، وكم من حادثة مشينة كانت وليدة التقليد والمحاكاة، ونتيجة الانحراف عن هذا الأدب الإسلامي السامي.