للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[تفسير الأحاديث المتعلقة ببيع التقسيط]

المطلب الثاني: وهو معنى هذه الأحاديث: هذه الأحاديث لها معان عديدة ذكرتها كتب الحديث والفقه، فبما أن الموضوع متعلق بموضوع بيع التقسيط فسنقتصر فقط على المعنى الذي يتعلق بقضيتنا؛ لأننا لو فصلنا في شرح الأحاديث فسنخرج عن موضوعنا، فسنذكر كلام علماء الحديث في شرح هذه الأحاديث: حديث أبي هريرة: (نهى عن بيعتين في بيعة) يقول الإمام الترمذي رحمه الله تعالى في شرح هذا الحديث: (نهى عن بيعتين في بيعة): وقد مثل بعض أهل العلم هذا الحديث فقالوا: بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك هذا الثوب بنقد بعشرة، ونسيئة بعشرين، ولا يفارقه على إحدى البيعتين.

أي: دون أن يحدد له أي البيعتين اشترى، فأما إذا فارقه على إحداهما فلا بأس بذلك، فإذا قال لك: أبيع لك هذا نقداً بعشرة، ونسيئة بعشرين، فقلت له: أنا موافق وقبلت، فهذا إيجاب بالقبول، دون أن يبين أي البيعتين اختار، فهذا العقد عند هذا الحد يكون باطلاً وغير صحيح، وهو منهي عنه؛ لأنها وقعت بيعتان في بيعة واحدة.

فالمسألة مسألة عرض، فهو يعرض عليه ويساومه، فإذا اختار أحدهما فليس هناك بيعتان في بيعه، فلو قال مثلاً: اشتريه إلى أجل بعشرين، فهذه بيعة واحده، وإذا قال: اشتريه نقداً بعشرة، فهذه بيعة واحدة.

إذاً: فلا يدخل في المنهي عنه إذا اختار إحدى البيعتين؛ لأنها بيعة واحدة، وأما إذا عرض عليه البيعتين فقال المشتري قبلت، فهذا العقد يدخل تحت النهي عن بيعتين في بيعة.

قال الشافعي: ومعنى نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة أن يقول: أبيعك داري هذه بكذا على أن تبيعني غلامك بكذا، فربط بيعة الدار ببيعة الغلام، ومثل أيضاً أن يقول: أبيعك هذه الأرض بكذا على أن تبيعني هذه السيارة بكذا، فهذه بيعتان في بيعة واحدة، فهذه الصورة تدخل تحت معنى الحديث.

فإذا وجب الغلام لي وجب لك داري، وهذه صفقة بغير ثمن معلوم، ولا يدري كل واحد منهما على ما وقعت عليه الصفقة.

فما يدري كم هو السعر، وهل هو بيع الآجل أم العاجل، فهذا هو الذي أثر في صحة هذا العقد، وبهذا المعنى فسره صاحب (معالم السنن) وهو الخطابي، وصاحب (بذل المجهود) وهو السهارنفوري، وصاحب (عون المعبود) وهو شمس الدين آبادي، وصاحب (نصب الراية) وهو الزيلعي وصاحب (سبل السلام) وهو الصنعاني، وصاحب (نيل الأوطار) وهو الشوكاني، وصاحب (فتح العلام) وهو صديق حسن خان.

وجاء في (الموطأ) وشرح الباجي عليه: قال مالك لرجل اشترى من غيره سلعة بمائة نقداً أو بشاة موصوفة إلى أجل، حال كونه قد وجبت عليه بأحد الثمنين: ذلك مكروه لا ينبغي؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة، وهذه بيعتان في بيعة، فيمنع لذلك.

وقال النسائي: باب بيعتين في بيعة، وهو أن يقول: أبيعك هذه السلعة بمائة دينار نقداً، وبمائتي دينار نسيئة.

وبمثله فسره البيهقي.

فمما تقدم يتبين لنا بجلاء: أن أكثر المعاني شيوعاً لهذا الحديث هو أن يذكر البائع للمشتري ثمنين أحدهما عاجل والآخر آجل أكثر منه مقداراً، وهذه الصورة هي الأساس لبيع التقسيط، وسنخلص فيما بعد النهي إلى علة هذا الحكم، هذا ما يتعلق بنهي النبي عليه الصلاة والسلام عن بيعتين في بيعة.

الحديث الثاني: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صفقتين في صفقة)، وقد جرت عادة البائع والمشتري أنهما يتساومان في عملية البيع والشراء، فإذا توافقا قال الأول: بعتك بكذا، وقال الثاني: قبلت، فإذا تم صافح أحدهما الآخر؛ تعبيراً عن إمضاء الصفقة، فيبسط يده في يد الآخر.

فالنهي عن الصفقتين في صفقة المقصود به نفس معنى بيعتين في بيعة، وهذا الكلام الذي ذكرته في هذا الحديث مبني على تفسير سماك قال: الرجل يبيع الشيء فيقول: هو بنساء بكذا وكذا وهو بنقد بكذا وكذا، فهذا مقارب لما سبق.

وقال ابن أبي شيبة: أن يقول الرجل: إن كان نقداً فبكذا، وإن كان نسيئة فبكذا.

وأما الحديث الثالث فحديث: (نهى عن شرطين في بيع، وعن بيع وسلف، وعن بيع وشرط)، فأما الشرطان في بيع، فقد فسرها صاحب (المنتقى شرح الموطأ) وهو الإمام الباجي بقوله: وهو أن يقول: بعتك هذه السلعة نقداً بكذا وبكذا نسيئة، وبمثله فسره النسائي وغيره.

أما (سلف وبيع) فهو: أن يريد الشخص أن يشتري سلعة بأكثر من ثمنها لأجل النساء وهو التأجيل، وعنده أن ذلك لا يجوز فيحتال بأن يستقرض الثمن من البائع ليرجعه إليه حيلة.

وعلى أي الأحوال: فما أورده العلماء من تفاسير للأحاديث: (نهى عن بيعتين في بيعة) و (صفقتين في صفقة) و (شرطين في بيع) يظهر أنها تتفق في معنى واحد، أن يبيع الرجل سلعته بثمن مؤجل أعلى من الثمن الحاضر.

هذا ما يتعلق بالأحاديث، والكلام عليها.

وأما كلام علماء الفقه: ففي الفقه الحنفي يقول صاحب (المبسوط): وصفة الشرطين في بيع أن يقول: بالنقد بكذا وبالنسيئة بكذا، وبمثل هذا المعنى فسره صاحب (تحفة الفقهاء)، وصاحب (الفتاوى البزازية)، والسندي في حاشيته، وصاحب (فتح القدير)، وهذا شائع في كتب الأحناف.

وأما في كتب المالكية فقد جاء في (مختصر خليل): وكبيعتين في بيعة يبيعها بإلزام بعشرة نقداً أو أكثر لأجل.

وفي الفقه الشافعي يقول الشافعي رحمه الله تعالى في معنى بيعتين في بيعة: وهنا وجهان: أحدهما: أن يقول: بعت هذا العبد بألف نقداً أو بألفين نسيئة، فقد وجب لك بأيهما شئتُ أنا أو شئت أنت، فهذا بيع الثمن فيه مجهول، وثانيهما: أن يقول: قد بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف.

وفي الفقه الحنبلي يقول صاحب (المغني) بعد ما ذكر حديث أبي هريرة (نهى عن بيعتين في بيعة): مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك، فهذا كله لا يصح.

قال ابن قدامة: وقد روي في تفسير بيعتين في بيعة وجه آخر، وهو أن يقول: بعتك هذا العبد بعشرة نقداً أو بخمسة عشر نسيئة، وهو أيضاً باطل.

وكذلك باقي العلماء والمذاهب الأخرى، سواء كانوا من علماء السلف كالصحابة والتابعين، أو من غيرهم فقد جاء عنهم ما يفيد أن كل هذه الأحاديث تعني أن تقول: هي نقداً بكذا ونسيئة بكذا، وقد روي هذا عن علي وابن عباس، وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أجمعين، كما نُقل عن الأوزاعي وعطاء والثوري والقاسم بن محمد والشعبي وابن سيرين رحمهم الله تعالى أجمعين، وبهذا المعنى فسر أيضاً داود الظاهري.

ويظهر مما تقدم من ذكر أقوال العلماء في بيان معنى الأحاديث الشريفة الثلاثة أن هذه الأحاديث تفيد معنيين: الأول -وهو أرجحهما وأكثرهما وروداً عند العلماء-: أن يقول البائع للمشتري: بعتك هذه السلعة بسعر معجل بكذا وبمؤجل بكذا، وهذا هو أصل بيع التقسيط.

الثاني: أن يقول البائع للمشتري: أبيعك كذا على أن تبيعني أو تؤجرني أو تقرضني كذا.