نذكر هنا بعض الأمثلة لبيان أن مواقف الناس تتأرجح فيما يتعلق مثلاً بالسلوك المادي، فهناك موقفان متطرفان: الأول: زاغت طائفة فرأت أن المال هو الهدف الأسمى والغاية القصوى، كما هو معروف عن اليهود الذين وصفهم تبارك وتعالى بقوله:{وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ}[البقرة:٩٦] ومعروف حب اليهود للمال، وهو مما يتندر به الشعراء، حتى إن أحدهم يصف جمال امرأة بأنه ينسي اليهودي الذهب، وهذا يدل على إسراف اليهود في حب المال وعبادته.
الثاني: زاغت طائفة أخرى وهم النصارى، فحرموا على أنفسهم حقها من الحياة فابتدعوا الرهبانية، يقول عز وجل عنهم:{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}[الحديد:٢٧].
وجاء الإسلام أمام هذين الانحرافين بالعدل، وأعطى كل ذي حق حقه، فقال عز وجل:{وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}[القصص:٧٧] وقال عز وجل: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}[الأعراف:٣٢].
ونهى عن الإفراط في حب المادة، فقال عز وجل:{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}[الحديد:٢٠] ونهى -أيضاً- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التشديد على النفس والترهب كما يفعل النصارى، فقال عليه الصلاة والسلام:(لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم؛ فإن قوماً شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم، فتلك بقاياهم في الصوامع والديارات، رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم).
فإذاً: كل ما يثبت عن الدين فلابد من أن نقطع بأنه هو العدل وهو الوسطية والخيرية، وأن نكل هذا الأمر إلى الدين وليس إلى العقول البشرية، فهو دين الوسطية والاعتدال، وهذه هي الميزة التي ميزت الإسلام عن سائر الأديان في كل القضايا بلا استثناء.