[احتفال دعاة تحرير المرأة بمرور مائة عام على تأسيس دعوتهم الهدامة]
الحمد لله الذي جعل عز الكافرين بعز التوحيد والإسلام مطموساً، وأذل بقهره منهم أعناقاً ورءوساً، وصرف عن أهل طاعته بلطفه وإسعاده أذىً وبوساً، ورفع كيد شياطين الإنس والجن عن قلوب أهل الإيمان فأصبح عنها محبوساً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وعلى سائر التابعين مقصده، الصابرين من البلاء على أشده.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
إن هناك بعض مجموعة كتيبات لبعض الصحفيين بعنوان (سنة أولى سجن)، (سنة ثانية سجن) وهكذا، فحق لمحاضرتنا أن يعنون لها (سنة مائة تحرير)، أو بالأحرى (سنة مائة سجن)، أي: السنة المائة من استعباد المرأة وسجنها في هذه الدعوة المشئومة، وهذه هي المرة الأولى التي تحتفل فيها مصر أو أية دولة أخرى بمرور مائة سنة على صدور كتاب، ولم يحصل أن احتفل بمرور قرن على صدور كتاب، وهم يسمونه (الاحتفال بمرور مائة عام على تحرير المرأة) وهذا عنوان غير صحيح، إنما هو على صدور كتاب (تحرير المرأة)، فإذا كان عنوان المحاضرة (تحرير المرأة من البذر إلى الحصاد) فالمفروض أن نرجع قرنين إلى الوراء وليس فقط قرناً واحداً، وبالضبط إلى تاريخ (٢١/ ١٠/١٧٩٨م) حيث كانت البذرة الأولى لتحرير المرأة كما سنبين إن شاء الله تعالى، فأقامت مصر جنازة حارة، أو بتعبير آخر: ذكرى حارة لصدور هذا الكتاب، وانضم عام (١٨٩٩م) إلى قائمة الأعياد المقدسة في التقويم العلماني، وهو عام صدور كتاب قديس العلمانيين قاسم أمين فتنة الأجيال وداعية السفور في عهد الاحتلال، فهذه ذكرى مرور قرن كامل على بداية الطرح النظري لقضية تحرير المرأة في مصر وفي البلاد العربية، ولكن انتهت من الناحية العملية إلى كونها تغريباً للمرأة، حيث كانت هناك مطالب لإصلاح أوضاع المرأة في ذلك الوقت، لكنها لم تكن في تهور واندفاع قاسم أمين.
وفي الحقيقة لقد تكلم كل من أراد أن يتكلم، فليس من الصواب تجاهل هذه القضية، وليس الهدف من الكلام تصفية حسابات مع أناس قد أفضوا إلى ما قدموا فحسابهم على الله سبحانه وتعالى، وإنما الهدف هو تقويم آثارهم التي تركوها، على حد قول الله سبحانه وتعالى: (وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ} [يس:١٢]، لا سيما تلك الآثار التي امتدت بحيويتها وتأثيرها إلى واقعنا المعاصر.
ومن الملاحظ واللافت للنظر أنه لم يكن من طقوس هذه الاحتفالية بمرور مائة عام على صدور هذا الكتاب ترتيل وإنشاد الكتاب المقدس لدى دعاة تحرير المرأة؛ لأنه ليس من مصلحتهم أن يتلى هذا الكتاب وأن يتعرف الناس على حقيقة محتوى كتاب تحرير المرأة؛ لأنه ربما لو تلي هذا الكتاب وأعلن للناس فلسوف يفضح مدى رجعية صاحب الجنازة، وسوف يوصف بأنه متطرف بالاصطلاح الحديث، وبأنه أصولي وبأنه رجعي، وذلك إذا قارنا محتوى كتاب (تحرير المرأة) بالتطور الكبير الذي لحق بالمذهب منذ تأسيسه، فـ قاسم أمين في محطته الأولى -أو بتعبير آخر: في المحطة الثانية له وهي كتاب (تحرير المرأة) - يعتبر من المتطرفين، حيث ينطبق عليه وصف التطرف؛ لأن قاسم أمين في كتاب (تحرير المرأة) جعل الكتاب كله يتمحور حول قضية أساسية، وهي كشف وجه المرأة مع احتفاظها بسائر ملامح الحجاب الإسلامي، فكل ما كان يدعو إليه هو كشف وجه المرأة، وكل المعركة التي قامت كانت من أجل أن يقنع الناس بأنه يجوز كشف وجه المرأة، وكان هذا الاعتقاد والتمسك بالحجاب الكامل للمرأة المسلمة بكل أبعاده وبكل معانيه ملمحاً رئيسياً في الهيئة الاجتماعية لمصر في ذلك الوقت، حتى كتب حافظ أمين معاتباً المصريين في شدة تمسكهم بالنقاب وبالحجاب الكامل للمرأة قائلاً: فلو خطرت في مصر حواء أمنا يلوح محياها لنا ونراقبه وفي يدها العذراء يسفر وجهها تصافح منا من ترى وتخاطبه وخلفها موسى وعيسى وأحمد وجيش من الأملاك ماجت مواكبه وقالوا لنا رفع النقاب محلل لقلنا صحيح ولكن نجانبه فلا شك أن هذا الشعر يعكس مدى شدة تمسك المصريين مع التجاوز عما يحتويه هذا الشعر من أمور فيها نظر، وقبل أن نستطرد في الموضوع فلو أراد أحد أن يحبط دعوة قاسم أمين وأن يثير ضدها أشنع دعاية وجهت لها على الإطلاق لما استطاع أن يحبط هذه الدعوة وأن يفضحها وأن يدمرها بمثل ما حصل في هذا المؤتمر الأخير الذي أقيم في ذكرى مرور مائة عام على تحرير المرأة.
وباختصار: إذا أردنا أن نختزل هذه الرحلة التي امتدت لمسافة قرن وكانت بدايتها البذرة أو البذور التي سنذكرها فإن نهايتها وحصادها الذي جوهر به علناً جهاراً نهاراً في هذا المؤتمر هو أسوأ دعاية لدعوة تحرير المرأة، وبلغ من قبح هذه الدعاية وشؤم هذا الحصاد أن الذين تولوا الرد على ما حصل في هذا المؤتمر أناس كثيرون لا علاقة لهم بالمتطرفين ولا بالأصوليين، بل هم أناس من عامة الناس، حتى من الصحفيات المتبرجات، فهذه واحدة من الصحفيات في صحيفة الأهرام كتبت تقول: إن المرأة لا تحتاج إلى قاسم أمين، ولكنها تحتاج الآن إلى من يعلمها أن الدين كله حياء وغير ذلك مما سوف نذكره.
وأحد هؤلاء الأساتذة -وهو أستاذ الأدب الانكليزي في جامعة القاهرة الدكتور محمد يحيى - يقول: إن الضجة التي نصبت لذكرى كتاب (تحرير المرأة) وتحويل هذا النص إلى عمل مقدس تخفي الحقيقة وتموه على تاريخ مؤلم وطويل من فرض خطاب علماني ومتغرب النزعة على الأمة بالقوة -يعني: لم يتم اختيار هذا المنحى بمحض الإرادة الحرة للمسلمين أو المسلمات- ليكون خطاب قمع وممارسة قهر ضد دينها وضد رجالها، ولكن ليس لصالح نسائها.
يعني أنه في الحقيقة ليست دعوة تحرير المرأة لصالح النساء؛ لأنهم يدأبون على تقسيم الناس إلى قسمين: من وافق أهواءهم فهذا صديق المرأة، ومن خالف أهواءهم فهذا عدو للمرأة أياً كان، فما دام يخالف دعواتهم فإنه عدو للمرأة، وكان هذا التقسيم فعلاً رائجاً في وقت من الأوقات، وكان يتم تمييز الرجال والأدباء والمفكرين هذا عدو وهذا صديق على أساس موقفه من هذه الدعوة المشئومة.
يقول: فالحقيقة أن هذا المذهب الذي فرض على الأمة المسلمة لم يكن لصالح نسائها على عكس ما يزعم له من أنه خطاب تحرير وخلاص وانعتاق، بل هو خطاب يزعم التحرير ويمارس القمع قولاً وممارسة، وهو خطاب يزعم تحقيق الخلاص، لكنه يحقق العبودية في الفكر وفي الممارسة وصولاً إلى العمالة الصريحة للقوى التي تنظم الاحتفال بالتحرير.
انتهى كلام الدكتور محمد يحيى.