مما يجسد خطورة التربية في المراحل الأولى: أن الله سبحانه وتعالى جعل الحضانة حقاً للأم، ورتب على الإرضاع أن جعل الأم من الرضاع تماماً كالأم الحقيقية:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ}[النساء:٢٣]، وقال عليه الصلاة والسلام:(يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب).
فموضوع مراعاة حق الطفل في رعاية أمه أمر في غاية الأهمية، وانفصال الطفل عن أمه، أو تقصيرها في هذا الأمر يجرنا إلى اليتيم، هل اليتيم هو من كان فقيراً أو من ليس معه مال؟ لا.
اليتيم يمكن أن يكون غنياً لكنه يتيم؛ لأنه حرم من أبيه أو من أمه؛ فقد ييتم الآباء أبناءهم وهم على قيد الحياة، كما قال الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلاً إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولاً ولا يمكن أن يقوم بديل عن الأم في هذه الوظيفة الخطيرة، فالشارع لما جعل حق الحضانة للأم ما قال: يمكن أن تقوم بها دور الحضانة أو الخادمة أو غير ذلك، فعملية هروب المرأة من وظيفتها المقدسة -تربية الأولاد- إلى العمل مصيبة، وأصل هذه العملية إقحامها في حياة المسلمين بطريقة متكلفة، وأصبحت تسمى المرأة: امرأة عاطلة وامرأة عاملة، فالعاطلة ربة بيت، والأخرى عاملة منتجة، أو نصف المجتمع إلى آخره، هذه هي المرأة العاملة التي تمارس هذه الوظيفة المقدسة وهي العاملة بالفعل لأشرف عمل، أما الأخرى فهي هاربة من الوظيفة، وهاربة من العمل إلى الشوارع والمصانع والمحلات إلى آخره.
طبيب أمريكي كان كلما جاءته أم بطفل مريض يشتكي، يكتب في كل الإرشادات الخاصة به: العلاج هو العودة إلى الأم الحقيقية، وهذا كاف، فقد كان يرى أن المرض هو نتيجة عن هذا الخروج.
وكما أشرت فإن الأم الحقيقية ليست عاطلة، ووظيفتها أصعب من أي موظف في العالم؛ لأن أي موظف يشتغل ثمان أو عشر أو خمس عشرة ساعة في اليوم أو فترة معينة ثم يستريح بعد ذلك، لكن الأم التي تحضن الأطفال وتراعيهم والزوج والأولاد والصغار والكبار، تشتغل أربعاً وعشرين ساعة، وممكن أن تستدعى بصراخ الرضيع في أي وقت، وقد تسهر معه إلى نصف الليل أو معظم الليل كي ترعاه وتحرسه، فهل هذه تسمى عاطلة؟! فموضوع إقحام قضية المرأة العاملة كان لغرض يراد بالمسلمين على يد اشتراكية عبد الناصر، وكان الكلام فيه متكلفاً، وضربوا له مثلاً فقالوا: مثل ذلك كمثل عامل يأتي في الليل بأنقاض بناية متهدمة ويضعها في الشارع فيسد الميدان بالأنقاض، ويرفع عليها مصباحاً، فيأتي من يسأله: لماذا أتيت بهذه الأنقاض؟ فيقول: لأرفع عليها المصباح، فيقال: ولماذا أتيت بالمصباح؟ فيقول: حتى لا يصطدم الناس بالأنقاض، وهذا مثل قضية عمل المرأة، فهي قضية متكلفة زرعت زرعاً وأقحمت إقحاماً لكي يتم إخراج المرأة من قلعتها الحصينة، ولشلها عن هذه الوظيفة المقدسة.
قد يقول بعض الناس: نحن نكثر الكلام عن التربية وأهميتها، فهل درس السلف هذه العلوم؟ فنقول: السلف حققوا النموذج العملي الراقي في كل مجالات الحياة، وليس فقط في مجال التربية، لكن الأمر كما في علم النحو والصرف واللغة والبيان والبديع وغيرها، فهل السلف درسوا النحو والصرف وغيره؟ فنقول: لا، ومع ذلك كانوا أفصح الناس؛ لأن ذلك كان عندهم بالسليقة وبالاستعدادات الفطرية بجانب تهذيب الوحي الشريف لهم، كذلك التربية هم مارسوها بالفعل؛ لكن ضبط هذه الأشياء وتبسيطها وتقنينها لا يمكن أن يتصادم مع هذا.