مبادرة الصحابة في امتثال ما أُمروا به واجتناب ما نهوا عنه
وحينما نزل تحريم الخمر مر أحد الصحابة على جماعة من المسلمين قد وضعوا الخمر في إناء وهم يشربون، فوقف عليهم وقرأ قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ} [المائدة:٩٠ - ٩١] فالصحابة قالوا: انتهينا انتهينا، فيقول الرجل: وكان بعضهم قد ملأ كأسه وقربه إلى فمه فلما قُرئت عليهم الآية سكبوه، ولا يوجد فيهم أحد قال: أقتنع أولاً ثم بعد ذلك أُنفّذ، كما يتشدق بعض السفهاء في هذا الزمان، فيقول: أقنعني أولاً! نقول له: يكفي أن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الزهري رحمه الله تعالى: من الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم.
فقانون العبودية أن نقول: سمعنا وأطعنا.
والآن ترى امرأة تتبرج وتتهتّك، وتطيع الشيطان فيما يأمرها به من محاربة الرحمن سبحانه وتعالى، فإذا أمرتها بالحجاب قالت لك: أقنعوني أولاً! نقول لها: هل سألتِ الشيطان هذا السؤال حينما أمركِ بالتبرج والتهتك؟! لماذا لا يقال: أقنعني إلا في طاعة الله سبحانه؟! فهذا من تلبيس إبليس.
ومن هذه النماذج ما روته عائشة رضي الله تعالى عنها حيث قالت: يرحم الله نساء المهاجرات الأُوَل؛ لما أنزل الله: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١] شَقَقْن مُرُوطهن فاختمرن بها.
أي: غطّين بها رءوسهن ووجوههن.
وعن صفية بنت شيبة قالت: بينما نحن عند عائشة رضي الله عنها، فذكرنا نساء قريش وفضلهن -أي: أخذن يمدحن نساء قريش ويذكرن فضائلهن- فقالت عائشة رضي الله عنها: إن لنساء قريش لفضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل؛ لقد أنزلت سورة النور: {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} [النور:٣١] فانقلب رجالهن إليهن -أي: رجع الرجال إلى البيوت- يتلون عليهن ما أنزل الله إليهن فيها -أي: في هذه السورة- ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته، وعلى كل ذي قرابته، فما منهن امرأة إلا قامت إلى مرطها المرحل فاعتجرت به -أي: فتحجبت به تطبيقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه- فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجرات كأن على رءوسهن الغربان -جمع غراب- وإنما شُبّهن بالغربان؛ لأن الغربان سُود، أي: أنّهنّ كُنّ يلبسن أكسية سُود.
وجاء ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فلما دخل من باب المسجد سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجلسوا) فلما سمع هذه الكلمة جلس في مكانه على باب المسجد، وهو لا يدري هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يخاطبه هو أم غيره؟ لكنه جلس عند سماع الأمر فوراً، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (تعال يا عبد الله بن مسعود) فحينئذٍ قام ودخل المسجد.
وهذا علي رضي الله تعالى عنه: حينما أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الراية لجهاد اليهود في خيبر، قال له: (امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك، فسار علي رضي الله تعالى عنه شيئاً) أي: مشى مسافة قصيرة، ثم توقف؛ لأنه تذكر سؤالاً مهماً: (فصرخ بصوته) أي: رفع صوته؛ حتى يتمكن النبي صلى الله عليه وسلم من سماعه؛ لأنه لم يلتفت إليه، بل وجهه إلى الجهة الأخرى: (فلم يلتفت وصرخ بصوته: يا رسول الله! على ماذا أقاتل الناس؟) أي: ما هي الغاية من هذا القتال؟ فمع أنه أراد أن يقول هذا السؤال المهم، إلا أنه لم يلتفت تنفيذاً لأمره صلى الله عليه وسلم في قوله: (امش ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك) فتحرى عدم الالتفات، وظل مكانه متوجهاً ناحية العدو، ولم يلتفت امتثالاً لأمره صلى الله عليه وسلم، حتى ولو كان الغرض من سؤاله الاستفسار عن أمور تمس الحاجة إليها في إنجاز مهمته هذه.
كذلك لما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بهجر الثلاثة المخلفين بعد غزوة تبوك، وأتى رسول من ملك الروم وجعل يسأل: من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ من يدلني على كعب بن مالك وصاحبيه؟ فجعلوا يشيرون إليه ولم يتكلموا؛ تنفيذاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كلامهم؛ لأنه كان قد نهى عن كلامهم، فرفضوا أن يتكلموا ويجيبوا الرسول الرومي بألسنتهم؛ حتى لا يقعوا في مخالفة الأمر بالمقاطعة، وهذا من أعظم التوقير لأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم.