[الفرق بين الغلو الكلي الاعتقادي والغلو الجزئي العملي]
أولاً: منطوق النصوص، فقد وردت في الغلو الكلي الاعتقادي أحاديث تدل على أنَّه بسبب هذا الغلو ستظهر جماعات وفرق وأحزاب، كحديث أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه في قصة الرجل الذي اعترض على قسمة النبي صلى الله عليه وسلم والعياذ بالله، فهذا الرجل قال كلمة خطيرة والعياذ بالله، قال: هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! فقال عليه الصلاة والسلام: (ويلك! من يعدل إذا لم أعدل؟! ثم أدبر الرجل، فاستأذن رجل من القوم في قتله -يقولون: إنه خالد بن الوليد - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من ضئضئ هذا قوماً يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان).
هذا الحديث يخبر عن فرقة الخوارج؛ لأن من صلب الرجل خرجت فرقة الخوارج، فأخبر أنه لا يرفع ثوابهم إلى السماء، ولا يقبل الله منهم هذا العمل، وهذا الوصف -في الحقيقة- للخوارج يتضح ويتبين منه أن الإخلاص وحده لا يكفي، بل لابد من الإخلاص والمتابعة معاً، فالخوارج لو اطلعت على اجتهادهم وإخلاصهم في العبادة لرأيت عجباً، كان يقول عنهم ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: (رأيت قوماً أيديهم كأنها نقر الإبل، جباههم قرحة من كثرة السجود) وكذلك صارت الركب مثل جلود الإبل في الخشونه من شدة العبادة والركوع والسجود، ولما دخل ابن عباس معسكرهم كي يناظرهم سمع دوياً كدوي النحل وهم يتلون القرآن، لكن -وللأسف- مع اهتمامهم بتلاوة القرآن فإنهم لا يفقهون القرآن، وهذا هو أحد أوصافهم الأساسية، كما سنبين إن شاء الله تعالى.
وكان عندهم ورع غريب جداً، لكن هذا الورع وجوده عدمه سواء، فهم لم يتورعوا عن قتل بعض الصحابة، وبقر بطون النساء الحوامل، وتكفيرهم للمسلمين، والخروج على علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، وهذه المأساة التي حصلت منهم، ومع ذلك كانوا في سيرهم زهاداً، فهذا واحد منهم أخذ تمرة من النخل فأكلها فقال له صاحبه من الخوارج: أخذتها بغير حقها! فما زال به حتى لفظها تورعاً.
وهذا آخر معه سيف أراد أن يجربه، فمر به خنزير لأهل الكتاب فقتله، فقالوا: قتلته بغير حق.
وذهبوا إلى صاحب الخنزير ودفعوا له قيمة هذا الخنزير، في حين تواطئوا على قتل المسلمين وإراقة دمائهم بغير حق، كما هو معلوم من سيرهم.
وجاء في بعض الآثار عن بعض السلف أنه قال: إن الشيطان إذا أراد أن يهلك إنساناً خلى بينه وبين العبادة وأمره بالخشوع والبكاء كي يصطاده ويصطاد به، حتى يجتهد في جانب العبادة على غير بصيرة، فيكون مبتدعاً وفتنة لكل مفتون.
فالشاهد من الكلام أن الشريعة نفسها فرقت بين الغلو الاعتقادي الكلي والغلو الجزئي العملي، فهنا النبي عليه الصلاة والسلام في جانب الغلو الاعتقادي حينما تكلم عن الخوارج قال في حقهم: (يخرج من ضئضئ هذا قوم) وذكر كلمة قوم، أي: فرقة صفاتهم كذا وكذا وكذا.
أما الغلو الجزئي العملي فمثاله ذلك الذي كان يغلو غلوا شديداً في قيام الليل، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: (ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد) فقوله: (ليصل أحدكم) عبر فيه بالواحد.
وقوله: (نشاطه) أي: مادام نشيطاً فليصل قائماً، فإذا فتر فليقعد، ولا يضع حبلاً بين الساريتين ويتعلق به؛ لأن هذا شدد على نفسه وكلفها فوق طاقتها.
وكذلك الغلو الاعتقادي الكلي بلاؤه عام على الأمة كلها؛ لأن الإنسان حين يغلو في اعتقاد ما، كأن يعتقد كفر المسلمين فهل سيقتصر على هذا الحد أم أن وراء هذه العقيدة مفاسد وأضراراً لا تحصى، علاوة على شناعة النطق بغير علم في مثل هذه القضية الحساسة، فيترتب عليها استحلال للدماء واستحلال للأعراض، وكم سمعنا من المآسي في هذا الباب، تجدهم يتزوجون المرأة وهي على عصمة زوجها؛ لأن هذا كافر حسب زعمهم، فيطلقها من زوجها ويتزوجها، وكذلك محاولة إراقة دماء كثير من المسلمين، ومعروفة حادثة قتل الشيخ الذهبي رحمه الله.
فإذاً: لا تقف القضية عند مجرد وجهة نظر فحسب، لكنها تنعكس في سلوك عملي شديد الضرر على المجتمع أو على المسلمين.
فإذاً: الغلو الكلي الاعتقادي عام الضرر على الأمة كلها، بينما ضرر الغلو الجزئي العملي مقتصر على الغالي والمتطرف نفسه.
وأيضاً: الغلو الاعتقادي الكلي مطرد الضرر في كل الأحوال وباستمرار، بينما الغلو الجزئي نسبي، بحيث يكون مؤثراً على الشخص نفسه وغير مؤثر على شخص آخر.