[بيان معنى (الحي) وأنه من أعظم أسماء الله الحسنى]
الجملة الثانية من آية الكرسي: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
بدأ الشيخ فضل إلهي بتعريف معنى (الحي).
يقول: المراد به -والله تعالى أعلم- الذي له الحياة الذاتية التي لم تأتِ من مصدر آخر، الكاملة الدائمة التي ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.
وحينما تصف الله سبحانه وتعالى بأنه الحي فإن تماثل الأسماء لا يقتضي تماثل المسمّيات، فقد يُطلق لفظ من الألفاظ على الله وعلى غير الله، لكنّ هذا التماثل في الاسم لا يقتضي تماثل المسمّيات، فمثلاً: يوصف الله بأنه عالم، ويوصف بعض البشر بأنه أيضاً عالم، أو كريم، أو حليم، وكذلك (حي) أيضاً من أوصاف بعض المخلوقات، لكن حينما نقول: إن الله عز وجل من أسمائه الحسنى (الحي) فيجب أن ندرك الفرق بين حياتنا وبين حياة الله تبارك وتعالى، فحياتنا قبلها عدم وبعدها موت، ونحن لم نحي أنفسنا، وإنما الذي أحيانا هو الله تبارك وتعالى.
فمعنى وصف الله سبحانه وتعالى بهذا الوصف: (الحي) يعني: أنه له الحياة الذاتية التي لم تستمد من مصدر آخر، فهو دائماً عز وجل حي منذ الأزل وإلى الأبد، لم ينفصل عنه هذا الوصف أبداً تبارك وتعالى، فحياة الله حياة كاملة دائمة، ليس لها انقطاع ولا زوال، لا قبل ولا بعد.
وقال قتادة في تفسير الحي: يعني: الحي الذي لا يموت.
وقال الإمام السدي: المراد بالحي: الباقي.
وقال الطبري: أما قوله: ((الْحَيُّ)) فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحدّ، ولا آخر له بأمد -أي: غاية ينتهي إليها- إذ كل ما سواه فإنه وإن كان حيّاً فلحياته أول محدود وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، وينقضي بانقضاء غايتها.
وقال البغوي: (الحي): الباقي الدائم على الأبد.
وقال ابن كثير: أي: الحي في نفسه، الذي لا يموت أبداً.
وقال أبو السعود: الباقي الذي لا سبيل عليه للموت والفناء.
ومن الآيات التي جاء فيها اسم (الحي) لله تبارك وتعالى: قوله عز وجل في أول سورة آل عمران: ((الم * اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ))، وقال عز وجل: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} [طه:١١١]، وقال عز وجل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:٥٨]،وقال تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر:٦٥].
وقد ذكرنا أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى يرى أن اسم (الحي) يستلزم جميع صفات الكمال لله تبارك تعالى، ولذلك كان يرى أن (الحي) هو اسم الله الأعظم، يقول: فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات، وهو أصلها، ولهذا كانت أعظم آية في القرآن: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)) فهو الاسم الأعظم؛ لأنه ما من حي إلا وهو شاعر مريد، فاستلزم جميع الصفات، فلو اكتفي في الصفات بالتلازم لاكتُفي بالحي.
وقال السعدي: وأنه الحي الذي له جميع معاني الحياة الكاملة، من السمع والبصر والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات الذاتية.
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله تعالى في تفسير (الحي القيوم): هذان اسمان من أسمائه تعالى، وهما جامعان لكمال الأوصاف والأفعال، فكمال الأوصاف في الحي، وكمال الأفعال في القيوم؛ لأن معنى الحي: ذو الحياة الكاملة، ويدل على ذلك (أل) التي تفيد الاستغراق، وكمال الحياة من حيث الوجود والعدم، ومن حيث الكمال والنقص.
أيضاً: إثبات هذا الاسم (الحي) بهذا المعنى الذي ذكرناه يستلزم أن كل ما سوى الله تبارك وتعالى ميت، فإن الحياة الأزلية الأبدية الدائمة ليست إلا الله الأحد تبارك وتعالى، وكل من سواه كائناً من كان فإنه هالك وميت، يقول عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:١٨٥]، وقال عز وجل: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:٨٨]، وقال عز وجل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:٥٧]، وقال: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:٢٦ - ٢٧].
فلو كان لأحد من الخلق الخلود والبقاء لكان أولاهم بذلك سيد الأولين والآخرين خليل رب العالمين: رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، لكنه لم يبق عليه الصلاة والسلام، وإنما مات كما يموت البشر، فهذه الحقيقة كانت مؤكدة حتى قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:٣٤ - ٣٥]، وقال عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:١٤٤] وقال جل وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:٣٠].
وعن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (جاء جبريل عليه السلام فقال: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزيٌّ به، ثم قال: واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزّه استغناؤه عن الناس) رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه.
ووافقه الحافظ الذهبي رحمهم الله تعالى.
وليس الحديث على ظاهره؛ لأن الإنسان لا يعيش كما يشاء هو، لكن هذا لبيان هذه الحقيقة، كما قال موسى عليه السلام لما أُمر أن يضع يده على متن ثور وله بكل شعره وقعت عليها يده سنة، فيمتد عمره بذلك، قال: ثم ماذا؟ قال: ثم الموت.
قال: فالآن.
فالشاهد قوله: (يا محمد! عِشْ ما شئت)، أي: افترض أنك تعيش ما شئت، فلا بد في النهاية من الموت، فإنك ميت.
ونحن نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى ذكر اسم الحي مباشرة بعد قوله: ((اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))، وفي ذلك استدلال على إثبات تفرده بالألوهية، فكأن الحي دليل لإثبات قوله: (الله لا إله إلا هو)، فالدليل على أنه لا إله إلا هو: أنه الحي، فهذا استدلال على إثبات تفرده بالألوهية وإبطال عبودية كل من سواه؛ لأنه لا يستحق العبادة إلا من كان حياً بالحياة الذاتية الدائمة الأبدية، وحيث لا حي بهذه الحياة إلا الله الأحد، فلا يستحق العبادة إلا هو.
يقول ابن عاشور: والمقصود: إثبات الحياة، وإبطال استحقاق آلهة المشركين وصف الإلهية؛ لانتفاء الحياة عنهم، كما قال إبراهيم عليه السلام: {يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا} [مريم:٤٢].
وقد يقول قائل: إن هذه الأصنام كانت جمادات، ولكن من عبد إنساناً أو كائناً حياً فإنه يعبد حياً، نقول: لا، يوجد وصف الحياة المستقلة الذاتية التي لم تأتِ بمصدر آخر سوى الله سبحانه وتعالى، فليس هناك حي بهذا المعنى إلا الله، وبالتالي فلا ينبغي أن يُعبد إلا الله؛ لأن حياة كل ما سوى الله إنما هي من عند الله، فهو الذي يحيي ويميت، وغيره لا يحيي ولا يميت.
وقد نبّه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى التلازم بين الحياة الدائمة واستحقاق العبودية، فانتبهوا لهذا المعنى، وهو معنى كلمة (الحي)، وأنها أتت مباشرة بعد قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة:٢٥٥]، وأبو بكر الصديق نبّه إلى الربط بين الحياة وبين استحقاق الألوهية والعبودية.
وهذا كان في الخطبة التي ألقاها أبو بكر رضي الله عنه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة كانت الصدمة عليهم أشد ما تكون، ونحن نعرف ماذا فعل عمر في تلك الحادثة الجليلة، والتي هي أعظم قاصمة وقعت في تاريخ الإسلام كله، وهي وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي، والصحابة كانوا قد صُدموا أشد الصدمة، وثبت أبو بكر رضي الله عنه، وهذه من فضائله التي تبين فعلاً استحقاقه لأنْ يكون الرجل الثاني في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة رغم عظمها إلا أن أبا بكر أراد أن يلفتهم إلى أن لا غرابة في أن يموت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا استحالة في ذلك، بدليلٍ لطيف جداً، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس إلهاً يُعبد، وإنما هو بشر من البشر، وأن الذي نعبده نحن المسلمين وحده هو الله عز وجل، فهو حي لا يموت.
فقد روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن أبا بكر رضي الله عنه خرج، وعمر رضي الله عنه يكلم الناس، حتى وصل الأمر إلى أن عمر قال: كذب من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد قُبض، بل ذهب إلى لقاء ربه كما حصل لموسى.
ورفع السيف وقال: من ادعى أن الرسول عليه الصلاة والسلام مات لأقطعن عنقه بهذا السيف -وهذا من شدة الصدمة- فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه بكل ثقة، فقال له: اجلس يا عمر، فأبى عمر رضي الله عنه أن يجلس من شدة الانفعال، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر رضي الله عنه، فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أما بعد: من كان منكم يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً صلى الله ع