للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من الأخطار التي تهدد كيان الأسرة طغيان الحنان والشفقة]

الأمر الخامس: طغيان الأمومة الحانية والأبوة المشفقة، وهذه مبالاة بصورة مرضية، وتسمى الحانية الزائدة، فقد تطغى على الأم الأمومة الحانية أو على الأب مشاعر الأبوة المشفقة، وتتعدى حدودها، وإزاء هذا الفيض من العاطفة، والسيل المتدفق من الحنان، والميل الشديد لاسترضاء الولد وإدخال السرور عليه؛ وقف الإسلام وقفة المذكر المنبه، فلكل شيء حدود، فهذا الحنان وهاتيك العاطفة قد تنسيان الأب مهمته في التوجيه والتربية، فينقلب عندئذ إلى منفذ لأوامر الأطفال الصغار، ويفلت منه الزمام تماماً بحيث تبقى وظيفته هي عبارة عن منفذ لأوامر الأطفال الصغار! فيكون الولد ملكاً في البيت ما يأمر به من أمر إلا يسمع له ويطاع، حتى لو خرب ميزانية المنزل، فمثلاً يريد لعباً من المحل الفلاني رآها وهو يمشي في الطريق، أو يريد يرى قريبه، فينقلب الأب منفذاً، ويتخلى عن التاج الذي وضعه الشرع على رأسه، ويصبح هذا التاج فوق رأس الطفل، وتصبح وظيفة الأب هي تنفيذ أوامر الأطفال الصغار، ويسارع في تحقيق رغباتهم مع أنهم لا يعرفون من الحياة شيئاً، ولا يدرون ما ينفعهم ولا ما يضرهم.

فكثير من أجيال المسلمين اليوم لم يجدوا في والديهم إلا الحنان المحض أو الإهمال اللامبالي، فهذا هو التطرف، وهو الأخذ بأطراف الأمور، إما إغراق في الحنان بصورة فيها تطرف وغلو بحيث إنه يصل إلى أن الولد يمسك زمامه، ويوجهه إلى ما يريد، خاصة في بعض الأسر المترفة التي عندها يسار، فيقول الأب: عندنا أموال فلماذا ننكد عليه؟ فيظل مهما أمر يقول الأبوان: سمعنا وأطعنا يا مولاي! ويحصل هذا القلب للأوضاع، فالمرءوس يصير هو الرئيس.

والإهمال واللامبالاة بالأولاد غالباً يكون من الأب بسبب انشغاله بالرزق أو سفره إلى الخارج كي يجلب لهم المال، وأحياناً قد يسافر الأب والأم معاً إلى الخارج، ويبقى الأطفال ضحية للضياع ولأصدقاء السوء، وفي ذلك من المفاسد ما لا يخفى.

وبسبب هذا التطرف من ناحية الحنان المحض الزائد أو من ناحية الإهمال واللامبالاة المطلقة رأينا أجيالاً فيها الميوعة والضعف والانهزامية واللامبالاة.

يقول الدكتور محمد الصباغ حفظه الله تعالى تعليقاً على هذه النقطة: سمعت من الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله أن رجلاً جاء يسترشده لتربية بنت ولدت حديثاً، فسأله: كم عمرها؟ قال: شهر، قال: فاتك القطار! قال: وكنت أظن في بادئ الأمر أنني مبالغ، ثم عندما نظرت وجدت أنما قلته هو الحق، وذلك أن الولد يبكي فتعطيه أمه الثدي، فينطبع في نفسه أن الصراخ هو الوسيلة إلى الوصول إلى ما يريد، ويكبر على هذا، فإذا ضربه اليهود بكى في مجلس الأمن، ويظن أن البكاء والصراخ يوصله إلى حقه! وبعض الناس يسمع هذا الكلام ويخطئ في تنفيذه، فهذا الكلام له ضوابط، فالطفل لغته الوحيدة التي يستطيع بها التفاهم مع المحاطين به هي البكاء، فبعض الناس يقول: ما دام أن الطفل يبكي إذاً نعاقبه وإن كان رضيعاً ابن شهر أو شهرين، مع أن البكاء هو طريقة الحصول على الطعام، فالطفل لا يستطيع أن يقول للناس: أريد أن أرضع، فالبكاء هي اللغة والوسيلة الوحيدة التي يستطيع الطفل أن يعبر بها عما أراده، والبكاء أنواع: بكاء بسبب المرض، بكاء بسبب الجوع، بكاء بسبب الحر، بكاء يريد به أن ينظف وتزال عنه القاذورات مثلاً، فأسباب البكاء كثيرة، فاللغة الوحيدة للطفل هي لغة البكاء، لكن دلالاتها تختلف، والأم التي عندها خبرة تربوية عالية تستطيع أن تميز كل نوع من أنواع البكاء، وتعرف أن هذا بسبب المرض، وهذا بسبب الجوع، وهذا بسبب الحر وهكذا.

عندما كان الرجل في سابق الأيام مسيطراً على البيت كانت جلادته وصلابته تخففان من لين الوالدة، أما بعد أن استنوق الجمل في كثير من الأوصاف، -استنوق: أي: صار الجمل ناقة-، وأصبح الرجل يتصف بهذه الأوصاف، ولا مهمة له إلا القيام بالخدمات وجلب الأغراض والحاجيات، ودفع المال والنفقات؛ لم يعد يملك من أمر بيته إلا اليسير كما هو شأن هذا الجيل المائع المنهار.

وعلى المرأة المسلمة وظيفة أساسية وهي أن تحافظ على وضعية زوجها وأبي أولادها أمام الأولاد؛ لأنها إذا حاولت هدم هذه الوضعية فالجميع سيدفع الثمن، الزوج والزوجة والأولاد، فحينما تريد أن تنتقم من الأب بأن تشوه صورته أمام أولادها تنقص قدره، وتظن أنها سوف تفوز بانحياز الأولاد إليها؛ فإن هذا يفقدها سلاحاً في غاية الأهمية، وضرورياً لصيانة هؤلاء الأولاد، وإذا غاب سلطان الأب وضعف على الأولاد، فلا شك أن هذا ثمنه فادح.